المعشر عن ابوعودة: شخوص الحكم اليوم لا تتمتع بذات الدرجة من الخبرة السياسية ذات التأثير السابق
11-10-2017 08:28 AM
عمون - حنين الزناتي - علق الوزير الاسبق الدكتور مروان المعشر في كلمته الرئيسية في اعلان الطبعة الجديدة لكتاب الوزير الاسبق عدنان ابوعودة انه إبان العهد السابق كان هناك مطبخ سياسي حول جلالة الملك الحسين --و اركز على سياسي وليس تنفيذي--و ان هذا المطبخ كان يجتمع باستمرار و بما لا يقل عن غداء اسبوعي لأركان الدولة مع جلالة الملك. و يبدو جليا ايضا حجم النقاش السياسي الذي كان يدور بين الحضور.
وفيما يلي كلمة المعشر المهمة وذات الابعاد السياسية :
اشعر بالفخر و الرهبة في آن واحد لمشاركتي المنصة مع شيخ المؤرخين الاردنيين الدكتور علي محافظة، و مع زعيم الباحثين الاردنيين الجدد د. محمد ابو رمان، و كلاهما اقدر مني بكثير عن تقييم يوميات عدنان ابو عودة و تبيان أهميتها التاريخية.
أودّ البدء بشكر معالي ابو السعيد لإتاحة هذه اليوميات بين أيدينا، و هو بذلك يخالف عرفا سياسيا اردنيا راسخا، مفاده ان السياسي، او السياسية، يلتزم الصمت بعد خروجه من الحكم، اما لرغبته بالرجوع، او لأن البلد صغير و لا يريد السياسي احراج احد، او لأن ليس لديه ما يقوله، و كأن الحياة العامة ملك فردي لا يحق للعامة الاطلاع على حيثياتها، او ان الاستفادة من تجربة من مارس الحكم ليست مطلوبة او مرغوبة. و تبعا لذلك، لم يشأ اغلب السياسيين الاردنيين الولوج في ما بقوا يعتقدون انه مستنقع، و للأسف فقد عانى تأريخ الحياة السياسية الاردنية الكثير جراء ذلك.
و تأتي أهمية هذه اليوميات تماما لأنها كذلك، كتبت في حينه و بدون اثر رجعي، فهي بذلك مصدر أساسي للمعلومات، تعبر عن آراء كاتبها لدى حدوث الفعل، لم تصقلها الايام او التجارب اللاحقة، فجاءت شاهدا حيّا على حقبة هامة في التاريخ الاردني، من احداث أيلول الى مؤتمر الرباط الى العلاقة مع سوريا و العراق و الولايات المتحدة الى فك الارتباط. و هي زاخرة بالتفاصيل و المواقف و النقاشات الهامة التي جرت حينئذ و على اعلى مستويات القرار.
التقيت معالي ابو السعيد للمرة الاولى قبل أربعين عاما، حين جاء لزيارة ابنه و زميلي في الجامعة سعيد، و قد دعا سعيد مجموعة من الطلبة الاردنيين ليتحاوروا مع ابيه في هموم الوطن. و رغم نعومة أظفارنا آنذاك، كان واضحا اننا كنّا نتكلم مع سياسي غير عادي، و انه بغض النظر عن درجة اتفاقنا او اختلافنا معه، كنّا امام رجل يستخدم المنطق و الحجة و التحليل العلمي في اُسلوب لم يعتده الاردنيون دائما. بل يمكن القول و بدون تردد ان ابا السعيد شيخ المفكرين السياسيين الاردنيين، و هي طبقة اخذة في الانقراض من شخوص فرادى جاءوا للحكم في حقبات متعددة و بافكار مختلفة، جمعهم اطار واحد ان كان لديهم مشاريع فكرية لتطوير الاردن، فلم تكن السياسة لديهم مجرد منصب او جاه، بل وسيلة لبناء دولة عصرية، و لو انهم لم يشكلوا يوما كتلة حرجة متماسكة في وجه من لا يريد التغيير.
تبدو ملامح شخصية ابا السعيد جلية لدى قراءة اليوميات. فهو حالة أردنية فريدة و هو يمثل ارفع مستويات المواطنة الاردنية و اصدق مشاعر الوطنية الفلسطينية. يحافظ و يمارس أردنيته بامانة و يدافع عن الاْردن و مؤسساته و امواله بكل قوة كمحافظته على بيته و ماله. و يتباهى بوطنيته الفلسطينية و يعتبرها "الأمانة في عنق كل عربي". ابو السعيد يفتش دائما عن القواسم و الرؤى المشتركة لابناء الشعب الاردني الواحد، و يؤمن ان التضامن الوطني يشكل طريقا مستقيما للحفاظ على وحدة الاْردن و شعبه و سلامة أراضيه و مؤسساته و تنمية قدراته.
وقد تجلت القاعدة الفكرية التي انطلق منها كصاحب تيار تغييري في فكرة الاتحاد الوطني و في فكرة الميثاق الوطني و قرار فك الارتباط على أساس المساواة في الحرية كمنطلق لتحرير المواطن الاردني من العوائق الاجتماعية و الإقليمية و ممارسة الديمقراطية تدرجا الى الخلاص من التخلف الاقتصادي و الثقافي و الوصول الى الوطن المثال. و كالعادة، اتهم بانه تنظيري و رمي بالإقليمية، و قالوا فيه ما لا يعلمون، و لكنه نجح في كسب ثقة جلالة المغفور له الحسين رحمه الله حين فشل كثيرون، و كان يعتبره موسوعة فكرية مشدودة الى التجديد و العصرنة.
و في موضع اخر في اليوميات يظهر نقاشا بين أركان الدولة حول وجوب تقديم الولايات المتحدة مساعدات للأردن لتغطية النفقات الجارية، تبدو الصورة جلية حول مدى تجذر النظام الريعي في تفكير بعض مسؤولينا، و حجم المسؤولية عليهم عندما لم يعوا مبكرا ضرورة التأسيس لنظام إنتاجي اكثر استدامة، و كيف أمعنوا في الاصرار على هذا النظام حتى وصلنا الى ما نحن عليه اليوم. و استحضر ما قاله رئيس الوزراء حينئذ للسفير الامريكي الذي كان أبدى أسفه لطلب الاْردن مساعدات لدعم الموازنة على حساب المشروعات
الإنتاجية، "صحيح اننا زدنا في النفقات المتكررة، و لكن هذا شأننا، فهذه دولة نحن نعرف كيف نديرها". و بعد اكثر من أربعين عاما على هذا اللقاء، نحتاج لوقفة مع النفس لنسأل ان كنّا حقا نعرف كيف ندير اقتصادنا.
يبدو ان هذه المرحلة، و التي بدت واضحة في اليوميات، قد أفلت، و تم استبدالها بشخوص تنفيذيين من غير المطلوب او المرغوب ان تكون لهم آراء سياسية خارج الصندوق. اعرف ان هذا الكلام لن يعجب الكثيرين، و لكني أزعم انه يندرج في باب التحليل الدقيق. يبدو واضحا من اليوميات انه كان هناك مطبخ سياسي حول جلالة الملك--و اركز على سياسي وليس تنفيذي--و ان هذا المطبخ كان يجتمع باستمرار و بما لا يقل عن غذاء اسبوعي لأركان الدولة مع جلالة الملك. و يبدو جليا ايضا حجم النقاش السياسي الذي كان يدور بين الحضور، و حجم الاختلاف ايضا، و الذي كانت تعرض فيه مختلف الاّراء بحرية قبل الوصول الى قرار--من موضوع فك الارتباط الى العلاقة الاردنية الفلسطينية الى العلاقات العربية الى المساعدات الخارجية و غير ذلك الكثير. و بمر العقود، يبدو ان هذا النوع من النقاشات انحسر لصالح النقاشات التنفيذية التي لا تتناول القرارات السياسية بذات الدرجة من التمحيص. كما ان شخوص الحكم اليوم لا تتمتع بذات الدرجة من الخبرة السياسية التي تجعل من آرائها ان أعطيت ذات اثر كبير على عملية صنع القرار.
و عندما كان البحث عن طاقم استشاري في الديوان الملكي في السنة الاولى من عهد جلالة الملك عبدالله الثاني قادر على تأطير خارطة المستقبل على أساس قواعد فكرية و مناهج عملية تحقق التطلعات المستقبلية، استعان به دولة السيد عبد الكريم الكباريتي رئيس الديوان الملكي آنذاك، باعتباره صاحب تيار تغييري يتقن فن القيادة و لا يبحث عن النجومية.
و قد ترفع عدنان ابو عودة عن الصغائر و ثرثرات الصالونات و تفاهات المؤامرات و الاصطفافات، لا يحمل في صدره ضغينة و لا تتجاوز رغبته اعطاء النصيحة الصادقة المخلصة، و لكن أركان الدولة العميقة تكالبوا عليه ليخرجوه بعد وقت قصير، و هو مفعم بخيبة الأمل و عقم الحوار مع الذين يعانون من وهم القوة و مأزق الزعامة و المزاودين الذين لا يريدون تبديل الموازين.
و حين يذكر ابو السعيد، لا بد ان تذكر معه خصلة اخرى و هي نظافة اليد. و في حين يجب ان تكون هذه الخصلة من المسلمات في العمل العام، فهي للاسف لم تعد كذلك. و كل من يزور ابا السعيد في منزله يدرك انه ذات المنزل الذي يقطنه في صويلح منذ السبعينات، و لا يفوته ملاحظة دفء المنزل و تواضعه في نفس الوقت. لقد اتفق الناس و اختلفوا حول آرائه السياسية، و لكن احدا لم يختلف على نظافة يده، او ينكر ان احدا من ابنائه لم يعمل يوما واحدا في الدولة. و في اليوميات فقرة ذات دلالات يعبر فيها ابو السعيد عن قلقه بعد خروجه من الحكومة في وقت ما لانه لم يكن يمتلك مصدر دخل غير معاشه.
لم أشأ الدخول في تفصيلات كثيرة جاءت في اليوميات، عدا الثناء على نشرها، علها تصبح سنة حميدة يتبعها كل من عمل في القطاع العام، يعرض تجربته و يترك للناس الحكم عليها و على الأحداث التي يتم سردها. و في النهاية، لا يسعني الا القول ان ابا السعيد ندرة و درة و رجل دولة حيثما كان.