أيُّ مجتمع فيه شبع وجوع، لكن في الأردن بات للجوع صناعة وسياقات، ومرادفات. والجوع عادة يأتي بفعل الطفر، وانعدام القدرة على شراء لقمة العيش، أو بلوغها، أو لمجاعة جائحة لا قدر الله، وللجوع صور تعبيرية، ونصوص وموسيقى وشعر وأمثال وحكايات قد تحوله إلى نص ومسرح ورواية.
زمان لم يعرف الناس الجوع بمعنى الفاقة التي تمحق القدرات إلا نادراً، فتجعل أحداً منهم محروماً. نوعاً ما كان هناك تكافل وتعاضد مجتمعي، وكان هناك رجال وقادة في المجتمع معنيون بالإطعام وتخفيف مصائب الدهر على مساتير الناس، هنا وجدت كلمة المستور والمساتير سياقها الطبعي المحترم الذي لا يعني النبذ. في ذلك الزمن المساواة كانت ظاهرة أو يُسعى إليها، والتميز هو الإنفراد غير المحبب، وحتى أهل الخير والملاك كانوا يخشون من العيش بتمايز، بل كانوا يسعون للنزول إلى مستوى الناس ويفتحون بيوتهم في أيام الولائم للجميع، ويخشون من إظهار النعمة على أبنائهم.
مقابل الجوع والفقر، هناك اليوم البذخ المفرط المتوحش، هناك الإنفاق بلا مبرر، ثمة عادات قوضت صور التكافل وانهت القدرة على ضبط اليد وكفها عن الصرف الذي لا يكون لازماً، يتزامن هذا مع ظهور طبقة محدثة النعمة من التجار والنصابيين، والسماسرة.
في مدار الأسبوع تسمع القصص الكثيرة، والأخبار الموجعة، وفي واقع الناس نجد لكل بيت أكثر من سيارة، جُلّها مرهونة للبنوك، يضاف لهذا الإنفاق على الاتصالات الذي بات يأكل كل ما في الجيب، مع ما رافق ذلك من أشكال استهلاكية فجة وغير منطقية، تجعل البيت صالة مطعم غير مُعلنة، نتحدث هنا عن عيشة الغالبية من المدن، أما القرى فما زالت متماسكة شيئاً ما.
ثمة انهيار كبير في المجتمع،وفي أنماط التكافل مع سيادة الاستهلاك غير المبرر، وتنامي رغائب المواطنين على الاقتراض، زمان كان الدين لأجل أمور مصيرية مثل: البناء أو الزواج أو أرسال احد الأبناء للتعلم للخارج، أما الآن يجري الاقتراض والتسليف لأجل شراء موبايل للطفل، أو استجلاب خادمة أو لشراء حرامات مطلع الشتاء، أو سفر بالصيف ولو مع شركة نصابة خدامتها بائسة، أو زيارة العقبة والقيام برحلة ممجوجة غايتها شراء المكسرات والتجول في شوارعها، وربما النوم على الشاطئ الجنوبي أو الرصيف. جرى نشر ثقافة البيع بالأقساط لتدمر الراتب. وترهن الرجال للبنوك وتحقق المرأة سطوتها في هذه الحالة.
لا رادع لهذا السلوك، ومعه تغيرت العادات وأوجه النشاط، زمان كان الأبناء في الصيف يعملون، واليوم الأبناء إما نيام، أو مع موبايلاتهم يقضون جُلّ الأوقات.وزمان كان يُقال: معنا بلزمنا، وما معنا ما بلزمنا.
في القرى اليوم، أطفال لا يجدون لقمة في الصباح، يذهبون للمدارس جوعى، أكلهم الجوع ومسّهم البرد، صورت واحدة قبل عام لمدرسة قرية البربيطة بالطفيلة كشفت المستور، وبينت خيبتنا، وربما هناك واقع اكثر ألماً في قرى أخرى.
زمان واجه الناس الجوع والمجاعات، المجاعة الكبرى ضربت المنطقة إبان الحرب الكونية الأولى وكانت 1916 وبلغت ذروتها بين عامي 1917 -1918، والتي اقترنت بسنوات الحرب القاسية، تلك حقبة وثّقها الدكتور روؤف أبو جابر في كتابة تاريخ الأردن الاقتصادي.
اليوم الجوع أحياناً قد يكون مستتراً، مُغلفا بكبرياء وعفة مصطنعه، وهناك مبادرات نسوية ومؤسسية وفزعات وبنك للطعام لجمع بقاياه وأطعام من لا يجد الطعام، لكن الأمر لا ينتهي ويبدأ هنا، ففي قرى أعرفها يقول لي صديق: إن بعض الأهالي يجبرون الأولاد على النوم مبكراً؛ كي لا يطالبوا بالعشاءّ!!
التقارير العالمية تقول إن الجوع في ازدياد، وتقرير حالة الأمن الغذائي والتغذية لعام 2017 الذي نشرته الأمم المتحدة يقول إن العدد الإجمالي للجوعى في العالم بلغ 815 مليونا من بينهم،في آسيا: 520 مليونا، والبقية موزعون على القارات الأخرى.
الدستور