رحل الدكتور راضي الوقفي ابن الحصن لؤلؤة الشمال وخسر الوطن قامة تربوية ساهمت عبر سنوات طويلة برصف طريق التعليم بمراحله ليكون ركنا من أركان الدولة الحديثة التي تعتمد على نتاج أبنائها، ومساهما رئيسيا بتطوير النظام التعليمي في الأردن، وأجد نفسي عاجزا عن ترجمة حزني وشعوري أمام عظمة هذا التربوي الفاضل الذي بدأ حياته معلما بمدارس وزارة التربية والتعليم، شديد التعلق بالمهنة بعد سنوات الدراسة المدرسية والجامعية للحصول على الشهادة الجامعية الأولى من جامعة دمشق في زمن ندر فيه التعلم لضيق الحال وصعوبة الغربة، حيث عاد وبدأ المشوار فكان أنموذجا بالعطاء، ساهم بتهذيب أفواج من الطلبة الذين حملوا الرسالة بأمانة لبناء الأردن الحديث، ليصعد بجدارة على سلم الإدارة التربوية من معلم ومدير مدرسة الى أول مدير مؤسس للتربية والتعليم في محافظة عجلون لدى استحداثها ومديراً للشؤون التعليمية في تربية محافظة إربد مرورا بعميد كلية حوارة وأمينا عاما للوزارة السيادية حيث أحيل للتقاعد بعد سنوات، وخلال رحلة التعليم كان يدرك أهمية مواصلة التعلم فكان مثابرا للحصول على الشهادة الجامعية الثانية «الماجستير» من الولايات المتحدة الأميركية عام 1971 ومن بعدها الشهادة الجامعية العليا «الدكتوراة» من جامعة دمشق حيث وظّف ما في جعبته لخدمة وطنه بالقدر الذي يدركه من خلال المناصب التي تسلمها سواء في عضويته لمجلسي التعليم العالي وامانة عمان ومديرا عاما لجريدة الرأي ثم عميدا لكلية الأميرة ثروت ومستشارا للكلية بسنواته الأخيرة.
تمتد علاقتي الشخصية القريبة بالدكتور الوقفي منذ استقر قاربي العلمي والعملي في الجامعة الأردنية بعمان في نهايات الثمانينات من القرن الماضي لأجد منه الحضن الأبوي المرشد والحريص على تحصيلي بحكم الود والانتماء لتراب الوطن فمنحني شهادة استقراء للمستقبل، وخلصت بنتيجة اطمئنان بوجود السند والمرجع وبالرغم من فارق العمر بيننا إلا أنني كنت محاورا معه في جلساتنا جهدت بالاستفادة من فكره وعلمه خصوصا أنه صاحب مبادئ يصعب العبث بفقراتها والتي حرمته من فرص متعددة بحكم اجتهادي، حيث السلاسة والحجة والبرهان برؤية واضحة لتحليل الأمور والمواقف ومحاولة لتوقع القادم فكان حريصا على غرس الانتماء بيننا ويغلفه ثوب الخوف من مصير امتنا فرحل بغصة بسبب ما وصل اليه الحال العربي المُبكي، وربما أعترف أنني كنت أصنع الظروف لألتقيه دون الاعتراف بحاجز العمر والزمن والوقت لأنه الراقي المتواضع بالطرح والحديث فلا يجرح أو يتهم ولكنه يقترح ويتوقع وصاحب الحجة والبرهان بثوابت
العصر، وكنت أشعر بالسعادة عندما يعاتبني على البعد حيث تشرفت بزيارة كريمة منه لمنزلي، تحاورنا فيها وأسهبنا دون أن نحاول اغتيال شخصية أو التقليل من شأن آخرين.
دكتورنا الفاضل: رحلت عنا بدون مقدمات وقد خطفك الموت لينقلك إلى الفردوس بدون استئذان ولكنك تركت فراغا كبيرا يصعب علينا أن نتكيف معه بالرغم من درجات ايماننا بأن إرادة االله ترتب أمور حياتنا ومحطة الموت تبقى غصة بأي عمر وتحت أي ظروف وتأكد أنني غير متخيل لذاتي بالجلوس في ذاك الصالون المطلِّ حيث أقابلك على مقعدك المخصص وسيجارتك التي هي رفيقة دربك الثانية، نقلب صفحات الماضي والذكريات ومحطات التلفاز نبحث عن محور مشترك بالمشاهدة حيث أتمنى التأخير لفنجان القهوة الذي يعلن نهاية اللقاء، وربما لقاؤنا الأخير في مستشفى الجامعة منذ أسابيع أثناء رحلة العلاج قد صنع الوعد بمستقبل أفضل ولكن إرادة االله كانت الأسرع.
هذا الصباح مُرّ في فمي، تتدحرج الذكرى بين زوايا العتمة، وخواطر البوح، لا الدمع يكفكف الآم الرحيل، ولا الوجع الضارب في أعماق النفس يخفف لوعة الفقد، ولا التوقف عند محطات اللقاء يجلب شيئا من السلوى، وأكاد لآ أصدق نفسي بأنك قد رحلت، فالعظماء لا يرحلون لأنهم يتركون بصمات الأمل لمن حملوا فكرهم ليكملوا المسيرة ودعني أخبرك اليوم بأن فاجعة رحيلك ومفاجأتها قد أثارت غصة في القلب، وانحسارا لمدد المعرفة الجميلة حيث نهلنا من علمك، وانطفاء لومضة نبل إنسانيتك، وعندما يجتمع في المرء النبل وحب الخير وكرامة النفس والوقوف عند الحق فقد ترك الدنيا وهي أحسن مما وجدها، ونحن جميعا ندرك بروعة الابتسامة التي تقول للحزن لن تغلبني، وتلك المحاولة التي تقول للفشل لن تتمكن مني وذلك الطموح الذي يقول للاحباط لن تسيطر علي، فلا منا يمتلك حياة كاملة ولا قلبا خاليا من الأعباء وفي هذا عزاء، لنا وأي عزاءلك الرحمة أستاذنا ابا اياد.