للخيانة اتجاهان : خيانة التابع للمتبوع و خيانة المتبوع للتابع ، و لكل منهما انواع ، و على مدار تاريخ المعرفة لم تستطع قوانين البشر الوضعية تجريم كل هذه الأنواع جميعا لان الجرم دائما يسبق التجريم .
و للخيانة تاريخ متلازم مع تاريخ البشر سواء أكان شكلها بالخذلان أو بالتواطؤ أو بالتآمر أو بالعمالة ، لكن أخطر اشكالها و أكثرها فتكاً في مفاصل الحضارات شعوباً و دولاً هو (التضليل) ، و أقول اخطرها لأنه لا يدبَّرُ سراً ليحقق هدفه ؛ بل هو يسمح للبصر و يطمس البصيرة ، فكان التضليل على الدوام هو السبب بتدمير الامم فيسري كالسرطان في جسد أي كيان ابتداء من (مؤسسة الاسرة) ثم (المؤسسات بمختلف أنواعها تجارية أو مجتمعية أو سلطوية )و انتهاءً بالدول بمختلف اشكالها .
- فالتضليل بالمجاملة و تجميل الحال لولي الامر خلافاً للواقع أشد خطراً من التآمر و التواطؤ.
- تضليل الام للأب بأن حال الأبناء بخير و هم في تفكك و تردٍ هو خيانة للأسرة .
- و تضليل المرؤوس لرئيسه بأن (المؤسسة) بحالٍ جيد و هي بأسوأ احوالها هو خيانة للرئيس و للمؤسسة.
- و تضليل الإعلامي للرأي العام بما هو عكس الواقع هو خيانة للناس .
- و تضليل الحاجب للسيد بأن الناس (بخير ) و هم (ليسوا بخير )هو خيانة له و لهم .
- و تضليل أئمة السلطان له بأن الامر الذي يريده في لحظة هو الصواب للشرع و للرعية خلافا للواقع هو خيانة له و الرعية .
- و المضلِّلين(بكسر اللام) ليس بالضرورة ان يكون لديهم نية التضليل : بل قد يكونون (سحّيجة )يشعرونك بطمأنينة غير واقعية ، و قد يكونون (هتّيفة) يجعلونك لا تسمع الا صوتهم، و قد يكونون (عاشقين لك )لكن العشق اعمى و لا يرى العاشق في معشوقته عيبا لكنهم لا يدركون ان علاج الجرح يكون بمداواته و ليس بدفع النظر عنه، و قد يكونون (أسرى للنعيم) فلا يجرؤون على التفكير بالجحيم.
-
- الخيانة بالتآمر ليست قلقا كبيرا و قلّما تنجح ، و الخيانة بالعمالة للعدو قلّما تحدث ، لكن الخيانة بالتضليل دائما تودي بالأمم الى الهاوية و الشواهد كثيرة في التاريخ و لا حاجة لذكرها ليس ابتداء من اخر الخلفاء العباسيين و من بعده اخر ملوك طوائف الأندلس و ليس انتهاءً بنهاية عهد فاروق ليُدقّ اخر مسمار في نعش المحروسة ، ذلك من فصل (تضليل التابع لمتبوعه و المرؤوس لرئيسه) .
اما تضليل المتبوع بتابعيه : فهذا لا يضيّع دولا فحسب بل يضيّع مجتمعات بأسرها ؛ فيمحق حاضرها و يسحق مستقبلها ، قادهُ في التاريخ القديم فرعون فضلّل شعبه و ضَلُّوا جميعاً.
و في العصر الحديث الكثير من الأمثلة لكنك ان نظرت الى حال الشعوب سيتصدر للذهن تضليل معظم زعماء الانقلابات العسكرية العربية -باستثناء سوار الذهب- حين استطاعوا ان يضللوا الشعوب و إقناعهم بان (مجلس قيادة (الثورة)) - و التي يفترض ان تنتهي بتحقيق الفكرة - يستمر الى ثلاثين عاما من التردي الاقتصادي والانتهاكات و الجوع و التضليل و التجهيل .
هنا تتلخص الفكرة بأن قروناً من الهداية و الحضارة تحرقها سنوات معدودة من الضلالة ، فجيلٌ واحد مضَلّل (بفتح اللام )يكفي ان يَضلَّ معه دهرٌ بتاريخه و حاضره.