ربما كان أصعب شيء وأكثره رَهَقاً على الكاتب أنْ يُضطَر إلى الصمت وقد تكثّرت في أُفقه دواعي الكتابة أو أن يُدفع على نحو ظاهر أو خفيّ عنها.
وإذا كان العكوفُ على الأسفار آناءَ الليل وأطراف النهار فعلا معرفيّاً واجباً على رجل الفكر، فإن الكتابة فعل أخلاقي واجب الأداء، ولا سيما في مثل هذه الأيام الحسوم التي تمر بها الأُمّة والعالم، ناهيك بها لوناً من الإفضاء الحميم إلى عدد كبير من القرّاء الذين اعتادهم الكاتب واعتادوه، وأنسَ بهم وأنسوا به، وصَدَقَهمُ وصدّقوه زمناً مديداً ربما تجاوز ربع قرن من الزمان...
إنّ استئناف الكتابة قد يتطلّب من اجتماع الهمّة ونفاذ الإرادة ما لا يتهيّأُ أوّل طلبه وساعةَ نشدانه، ولكنّ تكرار هذه التجربة (الانقطاع عن الكتابة) علّم صاحب هذه السطور كيفيّة الاحتشاد مرّة بعد أُخرى فيما يعتبره جهاداً من الجهاد وفريضة من الفرائض. ولعلّ هذه الزاوية أن تكون شُرْفةً مُواتية يطل منها على واقع الثقافة والفكر والسياسة في وطنه الذي يُحبُّ وفي أُمّته التي ينتمي إليها وفي العالم الكبير الذي هو مواطن كونيّ فيه، يُسعدُه أن يعمّ فيه العدل والسلام، ويُشفيه أن تهتضمه المظالم والحروب...
ولعلّ أجدرَ ما ينبغي توكيده لأول الشروع في هذا الاصطفاف الكريم في اخبارية "عمون" أنّ لنا فيما سنكتب – بإذن الله وتوفيقه – مرجعيات نأوي إليها ونتمسك بها، وننظُرُ مَليّاً في مقتضياتها، ولا نُزاورُ عنها بحال.
فالأُردن، وطن الآباء والأجداد، مرجعُ.
والعروبة والإسلام، في تماهيهما وتلازُمهما وما يشتملان عليه من مكارم الأخلاق، مرجعٌ.
والإنسانية، هذه الرحم الجامعة للآدميين، مرجعٌ.
والعَقْلُ والحكمة وموازينهما مرجعٌ.
وكل أُولئك، مُجتمِعاً، لا بُدّ أن يكون منظوراً إليه لدى تحليل الوقائع والأفكار وتقييم الأشخاص والمؤسسات والحكومات. وهو في مُجْملهِ ضامنٌ للوعي أنْ لا يَضِلّ ويشقى، ومُسَدّدٌ له في الدروبِ الشائكة والشّعاب الضيّقة وضروب التعمية والتضليل.
فإذا روعيت هذه المرجعيات المتلازمة؛ أمكن لنا أن نعود بأوفرِ العوائد وأجداها، وأعمق الاستبصارات، وكان للأردنيين من ذلك، وللعرب والمسلمين والناسِ أجمعين، خيرُ ما يكون من بَصَر حديد، ونَظَر نافذٍ، ونَقدٍ بنّاءٍ خالصٍ لوجه الله، وكان لنا، في المحصّلة ذلك "الإصلاحُ بقدر الاستطاعة" على سنن الأنبياء وطرائق المصلحين: "إنْ أريد إلا الاصلاح ما استطعت"، "وما أسألكم عليه من أجرٍ إنْ أجريَ إلاّ على ربّ العالمين"..
وغيرُ خافٍ على أولي الفِطَنِ وذوي الألباب أن منهج الاصلاح الجذري الشامل، بخلاف الراديكاليات الثوريّة المدمرة، ونَزَعات التفكير المتشنّجة، وذرائعيات الماديّة ولا أخلاقياتها؛ هو المنهج الذي ينأى بصاحبه عن الانفعاليّة، واللّهوجة، والتجزيئية القاصرة، ويستأني به في مداخل الأُمور ومخارجها، ويتجاوزُ به ذلك التذاكي "الكتيكي" إلى ما ينبغي توافرُه من رؤى استراتيجية بعيدة المدى يُراعى فيها "فِقهُ المآلات" و "القراءات المستقبلية"، ويُنظَرُ فيها إلى مصالح الأوطان ومقاصد الأديان في آن.
وإذا كان هذا مجرّدُ استهلالٍ لمقالات هذه الشُّرْفةِ من "عمون" أو بعضَ بيانٍ لما سيكون فيها من نَقِدٍ (نرجو أن يكون مسؤولاً ومسموعاً) لواقع الفكر والثقافة والسياسة والاجتماع في بلدنا الأردن وعالمنا العربي الاسلامي وسائر العالم؛ فإن مما نرجوه أن لا نكون ممن يتخافتون في الحق أو يكتمون شهادةً، وأن نظلّ على هُدى وبصيرة مع قُرّائنا الكرام بقدْرِ ما نستطيع، وأنْ يكون ذلك منّا على سبيل المصارحة والمكاشفة اللّتينْ لا إدهانَ فيهما ولا تملّق ولا نفاق.
والله سبحانه من وراء القصد، وهو يهدي السبيل..