فصل الدين عن الدولة أنشودة العلمانيين، وربط الدولة بالدين ترتيلة الثيوقراطيين.
لكن إذا كان فصل الدين عن الدولة في ظروف معينة سفينة ترسو بالوطن على شاطئ النمو الاقتصادي المستدام فلماذا يعترض رجال الدين؟ وإذا كان ربط الدين بالدولة في ظروف أخرى طائرة تحلق بالوطن عاليا في سماء التطور والازدهار فلماذا يعترض رجال الدنيا؟
والمشكلة ليست في الاعتراض وحسب، إنما في ذهاب الاعتراض إلى أقصى الطرف الذي يمثله؛ فتطرف الاعتراض باتجاهه الديني عند أقصى يمين مصلحة الوطن، وتطرف الاعتراض باتجاهه الدنيوي عند اقصى يسار مصلحة الوطن! كل منهما يشد مصلحة الوطن ناحيته بما تيسر لديه من أحابيل الدهاء والمكر؛ فبقيت مصلحة الوطن تتحرك ذات اليمين تارة وذات اليسار طورا؛ ورغم أنها تحركت إلا أن "إزاحتها" في المحصلة كما يقول الفيزيائيون صفر! أي "مكانك راوح"!
فلا يحق للثيوقراطيين التطرف في آرائهم ذات اليمين الدينية إذا كان فصل الدين عن الدولة قد رفع نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي للوطن من 2% إلى 7%، وانتقل بالميزان التجاري من العجز إلى الفائض! ولا يجوز للعلمانيين التطرف في وجهات نظرهم ذات اليسار الدنيوية إذا كان ربط الدين بالدولة رفع متوسط الأجر في الوطن من منخفض نسبيا إلى مرتفع نسبيا وانتقل بالموازنة من العجز إلى الفائض!
إن مصلحة الوطن تتطلب من الثيوقراطيين والعلمانيين ألا ينظر كل منهما للآخر نظرة ماهية. فإذا كان الثيوقراطيون يعتقدون أن العلمانية كلها سيئات -وهذه نظرة ماهية- فإنهم حلقوا عاليا في سماء الذاتية بعيدا عن أرض الموضوعية. وبالمثل، إذا كان العلمانيون يعتقدون أن الثيوقراطية كلها تخلو من حسنات –وهذه نظرة ماهية أيضا- فهم أيضا حلقوا عاليا في سماء الذاتية بعيدا عن أرض الموضوعية. ومن بقي في أرض الموضوعية؟ لا أحد! فبارت أرض الموضوعية وتسامت الذاتية على حساب مصلحة الوطن!
ولما كان الفيلسوف الألماني هيجل يرى أن التناقض هو محرك التاريخ، وإذا افترضت جدلا لا يقينا أن العلمانية نقيض الثيوقراطية، فإنني لعلني لا أغالي إذا قلت أن التناقض بين هاتين الأيديولوجيتين -إذا جاز التعبير- قد تلد عنه أيديولوجية جديدة هي "العلمادينية"! ولربما تكون هذه "العلمادينية" هي الطريق الأقصر والأقل خطورة ووعورة لأجل الوصول بالوطن إلى مصلحته الكلية ولو إلى حين من الزمان!
وربما لا أجانب الصواب إذا ما طالبت كل حزب بأن تكون غايته لا واجهته مصلحة الوطن لا الوطن. والغاية تبرر الوسيلة. والوطن هو: مسؤول ومواطن، أي أن الوطن هو الإنسان؛ وعليه فإن مصلحة الوطن هي مصلحة الإنسان!
عبرة من كتاب:
نقرأ في كتاب "وعاظ السلاطين" لمؤلفه الدكتور علي الوردي، ص٢٥٥: "فقد وجدنا عمر أثناء خلافته من أحرص الناس على مصلحة المؤمنين، وكثيرا ما كان يخالف أمرا صريحا جاء به القرآن او قال به النبي اجتهادا منه في سبيل الصالح العام".