كنت منشغلا بتحضير محاضرة لمناسبة معينة حول التخطيط الإستراتيجي في الدولة عندما تابعت حديث جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين لكبار ضباط القوات المسلحة الأردنية الجيش العربي، على نشرة الأخبار في التلفزيون الأردني، وأدهشني التطابق بين تعريفات الوعي الإستراتيجي، وبين التسلسل التطبيقي الدقيق لتلك التعريفات في حديث جلالته!
فالوعي الإستراتيجي يقاس بمدى امتلاك «المفكر الإستراتيجي» للحس الانتمائي للمتغيرات المحيطة، أكانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها، ومعرفة درجة خطورتها، بحيث يكون المفكر قادرا على التمييز بين المتغيرات الزمانية والمكانية بسرعة فائقة فكرا وممارسة، مستندا إلى فهم المتغيرات وتفسيرها، بناء على وجود موقف واضح، ورؤية سليمة.
حديث جلالة الملك أحاط بالأبعاد الثلاثة للدولة الأردنية، فبدأ من الإطار الدولي حيث لخص الموقف في جمل مختصرة لشرح التحديات التي يواجهها بلدنا «كنت في أميركا وتحادثت مع عدد من قادة الدول، وسياسيا وضعنا جيد «ذلك يعني أن نتائج المحادثات التي أجراها جلالة الملك على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، بما في ذلك المحادثات مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب دلت على تفهم وتقدير للموقف السياسي الأردني من التطورات الإقليمية والدولية.
في البعد الإقليمي، حيث المخاطر الأمنية تشكل التحدي الأكبر لأمن واستقرار الأردن وضع جلالته ذلك التحدي في مساحة اللون الأحمر، مؤكدا بصورة حازمة قدرة المملكة على حماية حدودها مع سوريا، مستعيدا قيمة الأردن الإقليمية والدولية، من خلال الإشارة إلى الاتفاق الأردني الأميركي الروسي، بشأن وقف إطلاق النار في جنوب سوريا، وهنا لا بد من التذكير بحصيلة سنوات من التعامل المضني مع التطورات المأساوية في كل من سوريا والعراق، وما نتج عنها من تكلفة باهظة لحماية حدودنا مع البلدين الشقيقين، ولاستيعاب اللاجئين، وتحمل الأعباء الاقتصادية الناجمة عن إغلاق الحدود مع من وصفهم بالشركاء التجاريين الرئيسيين للأردن.
ثم يأتي حديث جلالة الملك عن البعد الثالث والأهم، أي البعد الوطني المتأثر سلبا ليس على اقتصاده وحسب ، بل على مجمل الحياة العامة فيه ، نتيجة استضافة اللاجئين السوريين، وغيرهم ممن يقيمون على الأرض الأردنية، مما زاد عدد السكان في غضون فترة وجيزة حوالي عشرين بالمئة ، واستنزف ربع موازنة الدولة ، في ظل تقصير دولي ملموس ، وهنا يتساءل الملك «هل هناك دولة في العالم يمكن أن تأخذ هذا الحجم من موازنتها لتصرفها على اللاجئين»؟!
وأواصل متابعتي لحديث جلالة الملك، وأنا ألاحظ التطابق بين مفهوم الوعي الإستراتيجي، وبين أفكاره، وكيفية التعبير عنها لأصل إلى نقطة مفصلية، حين شرح رؤيته لكيفية التخفيف من الأزمة الاقتصادية دون المساس بقدرات القوات المسلحة، ولا بالفقراء ومتوسطي الدخل، مع إشارة واضحة بأن على ربع السكان من غير الأردنيين أن يتحملوا معنا أعباء أزمتنا الاقتصادية، تلك النقطة التي لخصها في جملة واحدة مفيدة «لا نريد أن يكون عام 2018 أصعب من عام 2017» ففي ذلك أصدق معاني الوعي الإستراتيجي ، عندما يكون وصف الحالة دقيقا ، والهدف واضحا ، والوسائل ممكنة أيضا.
yacoub@meuco.jo
الرأي