في اربعينيّة رحيل القاضي عبدالمجيد غرايبة
المحامي سويلم نصير
02-10-2017 09:01 PM
بسم الله الرحمٰن الرحيم
في اربعينيّة رحيل القاضي عبد المجيد غرايبة -رحمه الله-
ترجّل نصير العدالة وفارس الحق وتوارى بصمتٍ مخيف، تماماً كما يرحل الأتقياء الصالحون والرهبان والقديسون في كل الاساطير. انزوى دون ان يخون اي شخصٍ او اي مبدأ من مبادئه التي تربى ونشأ عليها، فقد هوت قمّة الجبل الإبداعي، إنّه جبل الريح عصف بعامل الخوف، رحل عبدالمجيد القاضي العفيف ولم يترك وراءه ارصدةً ماليه، ولا مشاريع حالمة، ولا استثمارات واعدة، ولا عماراتٍ تطاول عنان السماء، بل ترك تراثاً اغنى واثمن من كل هذه الأشياء، هو تراث العدل ومبدأ سيادة القانون.
استمد مكانته الفريدة من جوانب انسانية بحته تنبعث من المنبت والقيم والخصال والمواقف؛ كان بسيطاً بمسلكه، صلباً في مواقفه، شديد الاعتزاز برأيه، عفيفاً في حياته، قريباً من الزهد، هادئاً وصبوراً، نزيهاً في حكمه، مدافعاً عن مقدساته المتمثلة بحقوق الإنسان ودولة القانون وعقيدة الدستور؛ إنه الإرث العظيم للأسلاف يبعث على الفخر ويحصن الاجيال الجديدة من الوقوع في مواطن الزلل، إنه يذكرنا بالقانونيين الأوائل ويذكرنا باللائحة القانونية الاولى التي خطّت في زمن حمورابي.
ابو عمّار كان يحمل رسالة الحق حيثما نزل وأينما سار، لا يخشى في الحق لومة لائم، رضي من رضي وسخط من سخط طالما تحقق رضى الله. عرفته من خلال قراراته الجريئة العادلة التي تنبؤنا عن شخصيّته القوية وعزيمته الصادقة، كان يكتب بلسان روحه وقلبه وعقله الراجح(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلو تبديلا)صدق الله العظيم.
إن اجراس السماء لا تقرع إلا للعظماء من الرجال والعظيمات من النساء.
ابا عمّار: لقد احببت كل ذرة تراب من هذا الوطن الغالي وقدستها، ولم تحد عن مبادئك واهدافك النبيلة ولم تغرّك المناصب ولم يثنك عن عزمك لا الاخضر الفتّان ولا الاصفر الرّنان بل ملأت جيوبك وخوابيك وخزائنك وقلبك الصافي بالمحبّة والإخلاص والوفاء ونظافة اليد ولم تستهويك المناصب والكراسي وفضلت قاعدة الهرم على قمته فبقيت في وسط الشعب محبوباً ومرفوع الرأس عروبيٌّ صادق ووطنيٌّ مخلص لم تفرق بين شماليٍّ وجنوبيّ او شرقيٍّ وغربيّ وبين مسلمٍ ومسيحيّ وسنيٍّ وشيعيّ ودرزيٍّ وعلويّ وبين فقيرٍ وغنيّ، ولم تعرف مقولة فلان من هذه العشيرة، وفلان من تلك القبيلة، وذاك من هذا الفخذ، او ذاك من ذلك البطن، فالكل في قضائك سواء امام القانون ومبدأ العدل الذي لا حدود له، كنت صاحب اقوى سلاح الا وهو سلاح الموقف الجريء الذي لا يتبدل حسب الأهواء والمصالح كثوب الأفعى الرقطاء التي تبدل جلدها بين الحين والآخر او كالحرباء التي تغير لونها باستمرار، ولكنك بقيت ثابتاً على الحق، قابضاً على الجمر، فطوبى للقابضين على جمر الحقيقة والرجولة، المكابرين على وجعهم الناخر نخاع العظم، هؤلاء لا تلين لهم قناة، ولا تضعف لهم عزيمه، لأنهم يأبون إلا ان تظل رؤوسهم مرفوعة، مع انهم يعرفون بأن صاحب الرأس المرفوعة سيظل متعباً على الدوام، لكنك يا ابا عمّار آمنت وأيقنت بأن العدل فضيلة تصبو إلى تحقيقها كل القوانين والنظم الانسانية في كل زمانٍ ومكان، ما فرّطت يوماً بمبدأ العدل لأنك تعرف بأن الله يأمر بالعدل والإحسان لقوله تعالى(وإذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به).
لن يرحل ابو عمّار القاضي النزيه من مخيّلة وعقول الناس وإن توارى جسداً في باطن الأرض، وستبقى روحه الشفافة المحلقة ترفرف عدلاً وإنصافاً فوق ذرى الأردن رايةً خفاقةً بالعدل والإنصاف والمساواة وسيادة القانون.
قال تعالى ( كل نفسٍ ذائقة الموت وإنما توفون اجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا الّا متاع الغرور) وقال الشاعر:
الناس نوعان، موتى في حياتهم
وآخرون ببطن الأرض احياء
ما مات من مات محموداً خصائله
بل مات من مات مذموماً من الكذب
رحمك الله يا ابا عمّار يا ايها القاضي النزيه واسكنك فسيح جناته مع الشهداء والأبرار والصالحين وحسن اولئك رفيقا.