وأما الطيبون، فيرحلون سريعاً دون المسرات، غاضبين من تخافت هتافاتهم ويائسين من أمةٍ ضاعت واستسلمت وتهاوت مبادئها في العدل والكرامة، وهم الذين أعلوا من شأن الشوارع حين زرعوها ذات زمانٍ مجيد بقواعدِ العمل القومي. ولأنهم طيبون واستثنائيون فقد آثروا الرحيل، ليقولوا لنا إن البهجة لا تُقبض من قلوبنا قبضاً، إنما تنتزع انتزاعاً برحيل البُناة.
ترجّل فارسٌ آخر بالأمس، وأسلم للنوم عينيه بينما قلبه متعب بالإباء، شأنه في ذلك شأن من أنهكت قلوبهم معارك الأمة الهزيلة وبؤس المرحلة. عاشوا في صحراء فأنبتوها خضراء يانعة، وقرأوا درسهم الأول وفي فاتحة كتابهم، أن همَّ الأمة والبحث عن مستقبلها المشرق، قبل الخبز ومصروف الطريق.
أحمد عبد الكريم الطراونة، رفيق أبي نضال في الدراسة والنضال، ألقى علينا تحية الوداع ثم غفا، كانوا معاً في مدرسة الكرك الثانوية، أحمد الشوبكي وخالد الطراونة وسامي الصناع وعبد العزيز العدينات وإبراهيم سالم الطراونة وإبراهيم المحادين وحسني الهلسة وشفيق الصناع وضامن العمارين وآخرون كثيرون، كانوا فريقا وطنياً جامحاً، لا ترهبهم الهراوات ولا يجد التهديد بالسجن والقمع سبيلاً لنفوسهم الكبار، درسوا معاً وجاعوا معاً، لكنهم وهم المولودون في سهول القمح وفي فيء القيظ، نهضوا محتدّين هاتفين للأمة وللوطن، فمنحهم الوطن مهمة بنائه وتثبيت أركانه.
نستذكر هذا الجيل العظيم اليوم، وأقرأ لكم من مذكرات المرحوم مرضي القطامين " بعض ما علق في الذاكرة "، قصة مراجعاته لفك إقامته الجبرية في الجنوب، وقد ذكر فيها توسّط المرحوم الطراونة له عند رئيس الديوان الملكي آنذاك، وأقتبس :
" استدعاني قائد منطقة الكرك وكان من الأشخاص الذين يحتكمون للمنطق واسمه "بركات طراد"، قال لي بأنك قد رفضت في العام الماضي أن تذهب مخفوراً إلى عمان فماذا جد في هذا الموضوع؟ قلت له: "الجديد أنني أريد أن أتحدث معك في جدوى ذهابي مخفوراً، فأنا أعيش في قرية لا يوجد فيها مركز للأمن ولا سلطة أثبت وجودي لديها، ولو كنت أرغب في مغادرة البلد لغادرتها خلال ثماني وأربعين ساعة عن طريق سيناء، ولكنني لا أرغب في اللجوء السياسي ولا في مغادرة بلدي لا سراً ولا علانية." استمع لي بعناية وقال: "أريد منك أن تعطيني كلمة شرف وأنا سأتحمل الموضوع على مسؤوليتي على أن تقوم بتسليم الرسالة التي سأعطيك إياها لقائد شرطة العاصمة، فإذا وعدتني أن تسلمه الكتاب سأسمح لك بالمغادرة ".
وعدته بذلك، وأخذت الكتاب ونزلت إلى عمان وحجزت في فندق، ثم ذهبت إلى مدير شرطة العاصمة وسلمته كتاب قائد منطقة الكرك، وفيه مكان إقامتي في عمان، وفي عمان بدأت معاناة أخرى في سبيل إنهاء الإقامة.
أول ما قمت به مراجعة طبيب الأسنان، وبعد أسبوع من المراجعة وإنهاء المشكلة، اتصلت بوكيل وزارة الداخلية المرحوم "صلاح السحيمات" وطلبت مقابلته فحدد لي موعداً. استقبلني بابتسامة دافئة وقال لي: "ما المطلوب؟" فقلت له: "إن مرور ثلاث سنوات في قرية نائية يكفي، وأنا رب أسرة ولا بد أن أعمل، وإذا كان لا بد من الإقامة فإني أطلب نقلي إلى عمان لكي أستطيع أن أعمل." فقال لي: "أنت تعرف أن موضوعك بالذات لا يستطيع أن يبت به أحد إلا معالي الوزير." كان وزير الداخلية المرحوم "فلاح المدادحة" وقد علمت أنه كان يشن حملة شعواء ليس علي أنا فقط بل على أهل الكرك (الذين سمحوا لواحد من الطفيلة أن يتحكم بالكرك ثلاثة أيام كاملة). قلت لوكيل الوزارة: "هل أستطيع أن أقابل الوزير؟" فأخذ ورقة وكتب عليها ملاحظة أعطاها لرجل الأمن كي يدخلها للوزير فوافق على مقابلتي. في مكتب الوزير جرى الحوار التالي:
أنا: "مرحبا باشا."
الباشا لم يرد، بل قال: "أنت مرضي القطامين؟"
فقلت: " نعم "
قال: "أنت الذي أغلق مدينة الكرك ثلاثة أيام؟"
فقلت: "غريب منطقك يا باشا، أنت وزير داخلية وتعلم أن لي الحق في التظاهر في أي مدينة في الأردن، ثم أرجو أن تعلم بأني لم أكن وحدي بل كان معي خمسين ألف متظاهر من الكرك ".
فقال: "أنت حرام تطلع من السجن ".
قلت: "ما قصرت، وبعدك وزير داخلية تستطيع أن تحبس من تشاء".
فقال: "اطلع برا ".
فخرجت وانتهت المقابلة.
فكّرت بطريقة أخرى، فقصدت "أحمد الطراونة أبو هشام" وكان رئيساً للديوان الملكي، معتمداً على آخر مقابلة بيننا عندما خرجت من السجن حين كان وزيراً للتربية والتعليم، وقد كانت مقابلة مشجعة، فقد صرف لي رواتبي وعينني في عمان في مدرسة إعدادية.
اتصلت به هاتفياً وطلبت مقابلته وكان ذلك يوم الخميس، فقال لي إنه سيكون مع جلالة الملك يوم الجمعة في القدس، وسينتظرني صباح السبت في بيته في السابعة صباحاً.
كان لي صديق من أيام الدراسة الثانوية هو "أحمد عبد الكريم الطراونة" وكان قاضياً في عمان، فذكرت له القصة فقال:" سأذهب معك لزيارة "أبي هشام"، وفي الموعد المحدد ذهبت فوجدت من ينتظرني عند بيت "أبي هشام" ويبلغني بأن "أحمد بيك" (القاضي) يعتذر عن الحضور بسبب مرض والده."
أمّا الراحلون، فملح الأرض وقاماتها، نضجت حكمتهم على نارٍ وطنية هادئة غير نزقة، وما كانوا أبداً خلافيين ولا رجعيين، عضوا على حب الأرض بالنواجذ، وشقّوا وجهها بقمحهم وأقلامهم، وقدّموا على الغموس هتافاً في الشارع وعلى نزوات الذات نكرانا للملذات، وأعملوا فؤوسهم قدحاً في زناد الفكر وسواعد ترفع البناء، وصنعوا لنا وطناً كبيراً جميلاً ذا أساسٍ متين في التعليم والصحة والعدل، فكان للناس منهم مواقف صدق وحكمة ووطنية، وكان لهم من الناس ذكرى طيبة جميلة، لن تذهب برحيلهم بل ستبقى أيقونة خالدة على مر التاريخ.
هذا شأنُ الطيبين من أهلنا، شأن الأجيال التي ستحافظ على المحاريث، والمناجل، وتستعد لقمح ما نبدّل سنابله وما تبدّل.
يرحم الله الطيبين، ففي ذكراهم وسيرتهم مفاتيح لهذا الجيل ودروسا مجانية وعبر.