الصفحة الروسية الأمريكية الأخيرة
د.حسام العتوم
02-10-2017 10:17 AM
يصعب التحديق في دفتر العلاقات الروسية الأمريكية على أكثر من مستوى، وفي صفحتها الأخيرة انطلاقاً من تاريخ 20/ يناير/2017 عندما صعد دونالد دون ترمب إلى سدة البيت الأبيض في واشنطن واحتل الرقم (45) وسط رؤساء أمريكا الذين سبقوه إلى هذا الموقع الرئاسي الهام ببعده الدولي المتميز، والجمهوريون عندما منحوه فارقاً من الأصوات بلغ (276) صوتاً على منافسته هيلاري كلينتون لم ينتظروا أية مساعدة خارجية لإنجاحه خاصة من روسيا مثلاً، واعتمدوا في فوزه باعتباره مليارديراً على رجال أعمال، وساسة ولايتي فلوريدا، وكارولينا تحديداً حيث حصد (44) من أصوات كبار الناخبين إلى جانب ولايات الجنوب، والغرب الأوسط المحافظة، ورغم عدم قناعة الأمريكان بشخص ترمب الرئاسي، وبنسبة وصلت إلى (60%) من استطلاعات الرأي العام، إلا أن أصوات الناخبين الأمريكان توجهت صوب الخلاص من عهد باراك أوباما الذي انشغل في تحريك سياسات بلاده الخارجية على حساب التوجه للداخل الأمريكي، فجاء شعار ترمب (أمريكا أولاً) من زاوية الحرص على إبقاء أمريكا تقود القطب الواحد، وكل العالم، وهو الذي انتقدته روسيا، وأفشلت حركته في أكثر من موطئ قدم عالمي، وبقعة جغرافية، وسياسية. وثبت للعالم في ذات الوقت بأن ترمب لبس ثوب السياسة، وواصل التحرك مبكراً كرجل أعمال، واختار الشرق الأوسط ليختال فيه، واشتهر بربطة عنقه الحمراء وببرجه الجوزاء العدواني، وبطريقته المفاجئة بمصافحة ضيوفه، ومستقبليه، ولعقده لشفتيه على شكل لوحة بريئة، وعودة لجذور الصفحة الروسية الأمريكية الجديدة، وبالعكس نعود لنهايات عهد الرئيس السابق باراك أوباما عام 2016 الذي أوصل له جهاز أمن بلاده المتخصص، وكما تشيع ماكنة الاتصال طرداً من المعلومات السرية ووضعه فوق طاولته الرئاسية، وكشف عند فتحه عن ضلوع رئيس الفدرالية الروسية بوتين بالتخطيط للعبث بنتيجته الانتخابية الأمريكية حسب إعلانهم، وهو ما نفاه الرئيس بوتين مباشرة، وطاقمه السياسي، والدبلوماسي، والإعلامي، ولم يتم إثبات ذلك أمريكياً حتى الساعة بتورط روسيا فعلاً بمثل هكذا مشروع سرابي غير مجدي، رغم تفاؤلها بقدوم ترمب، ولو فازت هيلاري لباركت موسكو ذلك فوراً. والأهم بالنسبة لروسيا هو ميلاد أمريكا متعاونة، ومتفهمة لأقطاب وأحداث العالم، وبأن أمن العالم فوق كل اعتبار. والخطوات الأمريكية اللاحقة التي قصدت معاقبة روسيا غير المبررة بكل تأكيد مثل طرد الدبلوماسيين الروس البالغ عددهم 35 دبلوماسياً، والسيطرة على مزرعتيهما في واشنطن التابعتين للسفارة الروسية هناك، وتوجيه عقوبات اقتصادية أيضاً قابلته روسيا باستغراب شديد، واعتبره رئيس وزرائها دميتري ميدفيديف إعلان حرب اقتصادية من طرف واحد، وصرح به لاحقاً وزير خارجيتها سيرجي لافروف بأن بلاده لم، ولن تطلب مقايضة، أو إلغاء العقوبات الأمريكية على بلاده روسيا، وبأن الزمن قادر على إقناعهم بعكس ما تقوم به أفعالهم. ولجأت موسكو للقضاء، ولم تصعّد من لهجة العنف، والصدام بل واصلت التعاون مع واشنطن، وتقديم النصح لها في أسخن قضايا العالم مثل السورية، وعلى مستوى كوريا الشمالية، وأوكرانيا، وعادت أمريكا ترمب إيران مبكراً بدلاً من محاورتها.
ولقد توقعت روسيا بوتين ولافروف، بأن فوز الرئيس الأمريكي الجديد سيجلب الخير للعلاقات مع روسيا، ومع دول العالم، وبأن مخزون الطيبة لدى ترمب سيكون مفيداً أكثر من المكر السياسي المتوفر عند منافسته هيلاري كلينتون. لكن هيهات فقد فاز ترمب، واتهمت روسيا بالتورط بفوزه، ولم يتمكن حتى من زيارتها أولاً قبل أن يتوجه للشرق الأوسط وللفاتيكان، ويبدو لي أنه لن يستطيع ذلك لاحقاً خوفاً من رفع الحصانة عنه، وملاحقته قضائياً كما حدث معه عندما التقى هذا العام 2017 لافروف، وأفصح له عن معلومات خاصة بمكافحة الإرهاب تلقتها بلاده أمريكا من جهة ثالثة تشبه إسرائيل.
والآن بماذا هي مشغولة روسيا؟ وبماذا هي مشغولة أمريكا في المقابل؟ وما هو مصير أوروبا بعد اهتزاز انجلترا سياسياً؟ لقد أصبحت روسيا تقود قطبها سياسياً باقتدار واحتراف كبيرين بوجود رئيسها الخبير بوتين، ووزير خارجيته المحنك لافروف، وتتمسك بالقانون الدولي، وأوراق الأمم المتحد، ومجلس الأمن، ومحكمة الجنايات الدولية، وتتطلع لإيجاد حلول ناجعة لأسخن أزمات الجوار الروسي مثل أوكرانيا، وداخل الشرق الأوسط حيث سورية، وفلسطين، والعراق، واليمن، وليبيا، وعينها على عدم فقدان الورقة العربية، وهيجانها، وتموجاتها، فاقتربت أكثر من أزمة الخليج أيضاً، ودعت وسطها لحلول سلمية وسطية عادلة تعود بالفائدة على أزمة المنطقة الشامية برمتها وعلى شمال أفريقيا، وسط العرب، وفي سورية لم تأت روسيا غازية أو محتلة أو لسيناريو أفغانستان 1979 كما يروّج إعلامياً، ووسط ماكنة الإشاعات المخترقة للرأي العام، وتمكنت وبشكل مفاجئ من قلب الطاولة، ومن تثبيت حلول سياسية، وتعاونت مع امريكا بهذا الصدد رغم حساسية العمل معها، فأنجحت مؤتمرات (جنيف) و(الاستانا) ووصلت بسوريا لمرحلة مناطق خفض التصعيد، وتتطلع لحوار عملي بين سلطة دمشق، والمعارضة الوطنية بعد توحدها، وبعد طرد الإرهاب، وإخراج كافة الفصائل المسلحة القادمة من الخارج من دون دعوة، وبكفاءة عالية تمكنت حتى الساعة من تطويق مساحات واسعة كانت تخضع في سوريا لشبكات، وعصابات الإرهاب، ودمرت العديد من منشآتهم، وقتلت أعداداً كبيرة منهم دون هوادة، وفقدت ناسها وجنرالاتها، ومنهم الجنرال فاليري اسابوف في معركة دير الزور ضد إرهاب عصابات داعش المجرمة، وروسيا بالمناسبة تضع كل الإرهاب من داعش ونصرة وغيرها في خانة واحدة، وعينها على فتح الحدود السورية مع دول الجوار العربي، والتركي. وداخلياً لا زالت روسيا بحاجة ماسة لنقل إدارتها من المركزية إلى اللامركزية أو الدمج بينهما ليصلح الاقتصاد بعد ضبط الفساد على كافة مستوياته، وبهدف تشغيل المصانع الوطنية وحفظ حقوق الطبقة المتوسطة، والعمل على رفعتها. ولدى روسيا قناعة بأهمية تطبيق اتفاقية (مينسك) في الشأن الأوكراني لتتحقق العدالة والأمن، وليستقر حسن الجوار. وفي موضوع كوريا الشمالية وهو ما سمعته عبر اليوتيوب من وزير خارجية روسيا سيرجي لافروف بأن حرباً نووية لن تقع بين أمريك،ا وكوريا الشمالية لامتلاكهما السلاح النووي رغم المهاترات الرئاسية غير النافعة. وبتاريخ 27 سبتمبر 2017 تعلن روسيا بوتين ومن طرف واحد القضاء على مخزون سلاحها الكيماوي الخطير والمدمر للبشرية وهي خطوة تاريخية مقدرة.
وتتحرك أمريكا في الجانب الآخر لنشر سيطرتها خارج حدودها سياسياً واقتصادياً عبر تثبيت أزمات وخلق أزمات، جديدة غيرها، فنراها تساند احتلال إسرائيل لفلسطين وأراضي العرب، ولا تمانع من ضرب (إسرائيل) لسورية وحزب الله، وتتحرش بروسيا غير آبهة بتعادلها العسكري النووي والفضائي، وتشاكس كوريا الشمالية النووية السلاح من دون أية حسبة للنتائج، وتعمل على تهييج إيران التي استدارت للهدوء بعد الاتفاقية النووية (5 + 1) وترفض حوارها حتى بعد غروب عهد أحمدي نجادي الشرس. كتب سكون ريتر في كتابه (استهداف إيران، ص264): (أشارت استراتيجية الأمن القومي للعام 2006 بأن الولايات المتحدة الأمريكية ملتزمة بإبقاء أكثر الأسلحة في العالم خطورة بعيدة عن أيدي أكثر الناس خطورة في العالم). وفي (ص265) منه قوله: (فالنظام الإيراني يرعى الإرهاب، ويهدد إسرائيل، ويسعى إلى إحباط العملية السلمية في الشرق الأوسط). وتعليقي هنا هو بأن إيران نسبة وتناسب تغيرت ولا زالت لاعباً سياسياً هاماً في سوريا والعراق ووسط الشرق الأوسط، ومحاوراً في (الأستانة) والذي هو جانب إيجابي، ومحتلاً لجزر الإمارات في ذات الوقت، وتدفع بميليشياتها على الحدود مع الأردن وهو جانب سلبي بالتأكيد، لكن امريكا لم تتغير حتى بعد صعود (35) رئيساً أمريكياً لمنصة البيت الأبيض ورغم ميزانيتها المرتفعة، وثرائها وعدم حاجتها للقوة العسكرية أكثر، فإلى أين يسير العالم؟ وما هو موقف أوروبا من كل ما يجري؟ وهنا نعرف بأن أوروبا ومنذ العهد السوفيتي انضمت لحلف الناتو العسكري عام 1949 وشكلت من ذاتها حديقة خلفية لأمريكا التي أقنعتها بأن تتشكل بهذه الصورة، ورغم انهيار الاتحاد السوفيتي فجأة عام 1991 إلا أنها أي أوروبا واصلت بقاءها مع أمريكا في حلف عسكري واحد في زمن تخلت فيه روسيا عن حلف وارسو الذي تأسس عام 1955، وانهار بانهيار البناء السوفيتي، ولم تبني أحلافاً بعد ذلك، واعتمدت فقط على جيشها وبحريتها العملاقين النوويين، وأسست أوروبا لنفسها عملة إقليمية ودولية هي (اليورو) وبنت علاقات مع روسيا وبالعكس، لكنها واصلت أن تبقى موالية لأمريكا بحكم تجمع سيطرة المال الكبير في واشنطن، وكونها الحامي والراعي لمصالحها على خارطة العالم، وما الاهتزاز البريطاني وسط أوروبا إلا فقاعة بوجه أمريكا وتذكيراً لها بأن أوروبا موجودة، وتستطيع متى شاءت أن تستقل، وأن تنهي حتى وجود (الناتو)، وأن تشكل لذاتها حلفاً لا علاقة له بالمكون الأمريكي الهائج بوجه كوريا الشمالية، وهي الأزمة التي صرح حولها الرئيس بوتين في مؤتمر جزيرة (روسي) مؤخراً قائلاً: (بأن التعاون والحوار مع كوريا الشمالية يبقى أفضل الخيارات، ولو لم تمتلك السلاح النووي لكان مصيرها كما العراق)، ورغم التعاون الروسي الأمريكي في سوريا تحديداً وبالعكس إلا أن روسيا تشكو عبر إعلامها من تغريدات أمريكية خارج السرب ومن دعمها للإرهاب الذي يحاربونه ذات الوقت. فمتى تلتزم أمريكا بالهدوء وببعد النظر، وهي المسؤولة كما كبريات دول العالم عن استقرار الكرة الأرضية برمتها؟ ومتى يقدم العالم التنمية الشاملة على النزاعات والحروب؟ دعونا نتأمل.