علماؤنا: بين الماضي التليد والحاضر البائس
د. آمنة ابو حطب
01-10-2017 01:29 PM
بشهادة علماء الغرب: لولا الأطباء العرب لما كانت بعد التخصصات الطبية المعاصرة
إن الحديث عن العرب، يعني الحديث عن أمة حية، عبر التاريخ، وإن كانت تعرضت لهزائم وانتكاسات، ومرّت في حقب مظلمة. إلا أنها/ كما الأمم الأخرى، كانت تنهض بين الحين والآخر وتنفض عن نفسها غبار الإحباط، وتعود لتأخذ دورها بين الأمم الأخرى المجاورة. إلى أن جاء الإسلام فشكّل تحولًا نوعيًا وكميًا في شئون الحياة كافة، وفي المجالات الأدبية والعلمية والفلكية والطبية... الخ.
وأما الموضوع الذي نحن بصدده فهو "تطور الطب عند العرب عبر التاريخ"، ولدى البحث في هذا الموضوع وجدت أن دور العرب في الطب والعلوم الطبية والدوائية بمختلف تخصصاتها الدقيقة، منذ ما قبل الإسلام وبعده، دور بارز على مستوى البشرية، لا يمكن تجاوزه أو التغاضي عنه. وقد حصّل العرب منذ القدم، بفعل الملاحظة وتجارب الحياة، بعض المعارف الطبية التي اقتربت بهم من صحة تعليل المرض والشفاء؛ فاستعملوا العقاقير التي استخرجوها من النباتات والأشجار ومنتجات الحيوان. وكان للطبيب منزلة كبيرة عند الجاهليين وينظر لمهنة الطب على أنها من أشرف المهن. وأضاف العرب في الجاهلية ما اكتسبوه من الأمم المجاورة كالفرس والهنود وغيرهم.
وعندما جاء الإسلام عزز هذه المهنة، ورفع من قدر الطب والأطباء؛ ففي زمن الرسول صلى الله عليه وسلم برع الأطباء القادمون من العصر الجاهلي، مثل "ضماد بن ثعلبة الأزدي" الذي كان صديق الرسول (ص) في الجاهلية، وآمن برسالته بعد البعثة. كما مارست النساء التطبيب، مثل: رفيدة التي كان لها خيمة في مسجد الرسول (ص) بيثرب تعالج فيها الجرحى. واشتهرت زينب بمعالجة الأبدان والعيون ومداواة الجروح، واشتهرت أم عطية الأنصاري بالجراحة، وأم عبد الله بمعالجة النملة. ولم يقتصر الطب عند العرب على الإنسان، بل شمل الحيوانات أيضًا، كالإبل والخيل وغيرها .
وفي العصر الأموي اخذ العلاج يتأثر بالطب الاغريقي، ومن أشهر الأطباء في ذلك الوقت ابن اثال والحكم الدمشقي. وفي عهد الدولة العباسية علا شأن الطب؛ بزيادة احتكاك العرب بالأمم الأخرى التي فتحوا بلدانها، واستقدم الخلفاء أفضل الأطباء ، كما نشطت الترجمة، كالترجمة عن (ابقراط) – و(جالينوس) وغيرهما من أطباء اليونان .
وبتطور الحضارة الإسلامية ظهرت الكتب الوافية التي تجمع المعرفة الطبية كلها بين دفتي الكتاب، منهم:
ظهر أول كتاب (الملكي) لأبي بكر الرازي الملقب (بجالينوس العرب) ألفه للملك عضد الدولة ابن بويه .
الزهراوي هو صاحب (التصريف لمن عجز عن التأليف) الذي استفاد منه الغرب استفادة وافية؛ لأنه قاموس في الطب يمتاز عن سواه بالقسم الجراحي . ولخص الطبيب الفرنسي لوسيان لوكليرك مكانة الزهراوي في تطور الطب العالمي بقوله: "لقد احتل الزهراوي في معاهد فرنسا مكانة بين أبقراط وجالينوس فأصبح من أركان هذا الثالوث العلمي" .
ابن سينا، وسماه الغربيون بأمير الأطباء وأبو الطب الحديث في العصور الوسطى. وقد ألّف مائتي كتاب في مواضيع مختلفة، وأشهر أعماله كتاب القانون في الطب الذي ظل المرجع الرئيسي حتى أواسط القرن السابع عشر في جامعات أوربا، ويُعد ابن سينا أوَّل من وصف التهاب السَّحايا الأوَّليِّ وصفًا صحيحًا، ووصف أسباب اليرقان، ووصف أعراض حصى المثانة، وانتبه إلى أثر المعالجة النفسانية في الشفاء، وكتب كتاب الشفاء .
ويمكن إجمال القول بأن الأطباء العرب والمسلمين أسهموا بشكل جليّ وواضح في تطور العلوم الطبية على مستوى البشرية جمعاء، بخاصة في أوروبا، في مجالين رئيسيين، هما :
الأول: تلك الترجمات التي قام بها الأطباء العرب للكتب الطبية القديمة الإغريقية والهندية والفارسية إلى اللغة العربية والتي بدورها ترجمت ثانية إلى اللغة اللاتينية في بدايات عصر النهضة.
الثاني: ما أضافوه وما أبدعوه في مجال الطب، وفق ما هو مذكور أعلاه، من خلال الخبرات العملية التي كانوا قد اكتسبوها نتيجة لممارستهم للطب في البيمارستانات التي كانت منتشرة في كافة أرجاء البلاد الإسلامية.
وهناك إقرار من علماء الغرب بأن بعض العلوم الطبية ما كانت لتكون لولا دور العرب في تطويرها والمحافظة عليها. إذ تقول المستشرقة الألمانية زيكريد هونكه في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب: فرع الجراحة يدين للعرب بتقدمه وصعوده المفاجئ من مرتبة المهن الحقيرة الدنسة التي تكاد تكون بمنزلة مهنة الجلادين والجزارين إلى القمة التي عرفها على أيدي العرب، فإلى العرب وحدهم يعود فضل رفع هذا الفن العظيم إلى المستوى الذي يستحقه، وإليهم وحدهم يرجع فضل بقاء هذا العلم. (عن: عبد الناصر كعدان).
إذا كان هذا حال الطب عند العرب والمسلمين، في أوج حضارتهم، فإن العلوم الأخرى ليست أقل شأنًا ولا مستوى من حيث الإبداع والتميز والتطور، الذي أخالني أراه قد توقف في آخر ستة قرون من الزمن (تشمل الحقبة العثمانية)، حيث دخلت أوروبا حقبة التطور العلمي والتقني في المجالات كافة، في حين أن أمتنا أخذت دور المتلقي والمستهلك للمعرفة وما تبعها من تكنولوجيا.
حاليًا، من الجدير الالتفات إلى أن لعلمائنا أدوار بارزة وواضحة في الحضارة الغربية، إلا أن هؤلاء العلماء هم أدمغة مهاجرة تحمل الهوية العلمية الغربية؛ لأن الهوية تعود إلى تلك البيئة التي احتضنتهم ورعتهم ووفرت جميع عوامل ومحفزات الإبداع والتميز، في حين أن مجتمعاتهم الأصلية أخذت دور القوى الطاردة المنفرة التي جعلتهم يستقرون في الغرب ولا يفيدون مواطنهم الأصلية بشيء، سوى الحنين إلى طفولتهم المعذبة والبائسة!
ويبقى السؤال الاستراتيجي على طاولة صانعي القرار في أمتنا: إلى متى ثروات الأمة بعيدة عن التوظيف لصالح أبنائها؟ ومتى سنرى الخطط التنفيذ لاستعادة تلك العقول التي هجّرناها قسريًا؛ لتأخذ دورها في نهضة الأمة وإعادة وضعها على خريطة العالم العلمية والاقتصادية ومن ثم على الخريطة السياسية التي تعني أن يحسب لها ألف حساب بين أمم المعمورة قاطبة؟!