عند تتبع السجال بين تيارين فكريين بدا نشاطهما قويا في مجتمعنا الأردني: التيار العلماني، والتيار الإسلامي السياسي، نلحظ أنه يبدو حادا ومخيفا، ولكنه ينطوي على مؤشرات إيجابية...
فنحن إزاء حالة مهمة قابلة لإثراء المشهد الثقافي، والاجتماعي، والسياسي الأردني، شريطة ما سيقدمه التياران من نضج في الطروحات، وطرائق السجال، والنقد، ونقد النقد سواء الذاتي أو للآخر، في ظل الشعور بالأمان وحماية أرواح المتحاورين، فالإرهاب الفكري وسيلة لإسكات حقيقة مزعجة، ذلك لأن المواقف قطعا مختلفة تماما وتطلب نقدا موضوعيا غير مشخصن، والكفيل بإدخال المجتمع في سجال فكري حقيقي ..
وبعيدا عن صحة الاتهامات المتبادلة، أو المغالاة في رشقها، تأتي الأسئلة: لماذا يصب التيار الديني اتهاماته على المثقف العلماني شخصيا، بدلا من نقد مقولاته واستلام نص طروحاته مع حقيقة أن هذا التيار أصلا لا يمثل الأردنيين بالكامل..؟
مقابل أين أصبح الرأي والرأي الآخر، وحق الاختلاف بمنظور العلماني للتيار الآخر، ومن الذي يمتلك الحقيقة كاملة ونقية بعيدا عن نسبيتها...؟
ثمة رؤية مختزلة عن مبدأ الحوار وقد تُحجب ، فحالما يروح التيار العلماني لمصير المجتمع باسم المعاصرة، يقفز التيار الديني السياسي على الفكرة طاعنا في التوظيف باسم الإحالة مدافعا عن مرجعيته.. بالمقابل أوليس الدين حاجة نفسية كيانية ولا بد من احترامها بوصفها حاجة، إنما النقد للتأويل، أي بما هو منجز بشري.!
إذن نحن بحاجة إلى العقل باعتباره أداة تحليل وفهم لبنية ثقافية، واستخدامه كأداة تساؤل ونقد، والخروج من حالة أن الآخر ملعون.. نحتاج إلى مضامين تشتمل على فهم واضح لمفاهيم الحرية، وقبول التعددية، والمساءلة وسيادة القانون وحق الناس في تبني الأفكار التي تعبر عنهم لا المفروضة أيدولوجيا من قبل أيٍّ كان.
ولكن -والتساؤل مشروع-، هل الاتجاه الحكومي معني بهذا السجال، وإلى ما يمكن أن يذهب إليه وأثره المجتمعي، أم أنها مرحلية لتخفيف التأثير الديني السياسي في إطار العواصف والتبدلات الإقليمية والدولية ليس إلا...!
واقعيا نلحظ جدية التطوير والتنمية السياسية -ربما بحدود- ولكنها خطوات مهمة مرحليا يمكن توظيفها لإثراء السجال وتطويره.. فعند العودة إلى أهم بوصلة للاتجاهات الرسمية، سنجدها في سلسلة الأوراق التي ينشرها جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، حيث يعرض رؤيته لمسيرة الإصلاح الشامل أردنيا بمختلف المجالات، والتي تشكل في طياتها بنودا على غاية من الأهمية -خارج إطار المديح-، بل الانتقال الفعلي لسجال فكري بشأن أبرز الأفكار القابلة للترجمة في بنيوية المجتمع، وخلق حالة ثقافية فكرية سجالية، كالدعوة بوضوح لحراك فكري يسبق حراك الشارع، وتطوير التعليم، والحريات، والنظم الديمقراطية، والحكومة البرلمانية. .وغيرها من النقاط الجوهرية..
فهل سيتمكن التياران الأكثر حضورا من المضائق المظلمة، بإنضاج تجربة الحوار الفكري لطالما رأس البلاد يتبنى ذلك، وهي دفعة قوية لبلورة مجتمع مدني تنضوي تحته كل التيارات والآراء المختلفة لصالح المستقبل، مستفيدين من كل التجارب الإنسانية عربيا وعالميا في منعطفات الأمم المصيرية .. قطعا كل هذا سيعتمد على طبيعة الاشتباك والسجال الفكري، وكيفية إدارته وبلورته: علمانية تحترم الدين، ودين يحترم المجتمع المدني ..