اشتداد الأرهاب الفكري عند الأزمات ..
مالك نصراوين
26-01-2009 10:44 PM
منذ بداية وعينا السياسي ، نحن ابناء هذا الجيل ، والذي ابتدأ اواسط الستينات ، وفي ظل انتعاش الحركات السياسية العربية في ذاك الوقت ، وانتشار ثقافتها وسط الجماهير ، كان الشعار الابرز التي ترسخ بالاذهان ، هو قمع الانظمة العربية لشعوبها وقواها السياسية ، والتي تحمل فكرا معارضا لانظمة الحكم ، نتيجة لاديمقراطية تلك الانظمة ، وعداؤها وقمعها للراي الاخر المختلف ، وكنا نعتبر الشعوب ضحية الحكام ، وقد ترسخت في اذهاننا تلك المقولة ، بتأثير انتماءاتنا الحزبية ، التي تحولت الى ما يشبه الانتماء العاطفي ، نرى كل ما يقال صحيح ومحق حتى اليوم ، نتغاضى عن التغيرات الهائلة التي احدثتها الانظمة باتجاه الديمقراطية ، وفي نفس الوقت نتغاضى ايضا عن الجمود الذي ما زال يشل فكر بعض الاحزاب وثقافتها ومقولاتها السالفة ، لا نشغل عقولنا للتاكد من صحة ما يقال ، بل نقلب أدمغتنا كي تنسجم مع افئدتنا ، ونستمر في تبني هذه الافكار السياسية وعشقها ، رغم ان الزمان قد عفى على كثير منها ، تماما كما هو حال العاشق الولهان ، الذي يتعامى عن عيوب من يحب .
نتيجة تلك الثقافة ، ساد الاعتقاد لدينا ، ان الشعوب ديمقراطية بطبعها ، والحكام هم اعداء الديمقراطية ، الا ان جاءنا زمن ، اصبحنا فيه نشفق على الديمقراطية من ديكتاتورية الشعوب او ديكتاتورية الاغلبية ، او لنسمها الديكتاتورية السائدة والمهيمنة ، فقد لا تكون تمثل الاغلبية فعلا ، لكنها تبدو كذلك ، لهيمنة فكر ترعرعنا عليه وتعاطفنا معه ، واصبح الخروج عنه او التعديل عليه عارا ، فاضطر غير المقتنعين به الى مجاراته ، حتى لا يبدو كمن يغرد خارج السرب ، او درءا لتهم هو بغنى عنها .
في عام 1990 وعقب احتلال الكويت ، ظهر في الاردن تيار شعبي جارف يساند العراق ، رغم ان القطرين عربيين ، وقد طغى هذا التيار على الاصوات المعارضة ، وهي ليست بالضرورة مؤيدة للكويت او عميلة للغرب ، لكنها تملك موقفا مبدئيا ، يرفض اذلال العربي للعربي ، ولها وجهة نظر عقلانية ، استشفت الخطر القادم ، وكان ينبغي افساح المجال لها للمجاهرة برأيها ، غير ان الذي جرى ، كان قمعا شعبيا وليس رسميا لتلك المواقف ، رغم اننا كنا نعيش بداية عصر الديمقراطية ، التي ولدت عام 1989 ، وكان الأولى بشعب "عانى" من الاحكام العرفية وغياب الديمقراطية ، ان يحسن ممارسة هذه الديمقراطية الوليدة ، لا ان يتبنى قمعا جديدا ، وكان الأولى ايضا باصحاب الافكار المعارضة من النخبة السياسية ، الذين طالموا كانوا يفخرون بتاريخهم النضالي ، ومعاناتهم ابان الاحكام العرفية ، ان يتصدوا لهذا التيار الجارف ، ويجاهروا بمواقفهم ، كما فعل الامين العام للحزب الشيوعي الاردني آنذاك ، الدكتور يعقوب زيادين ، والذي قامت الدنيا عليه ولم تقعد ، لانه عارض احتلال الكويت ، والجميع يعلم مواقفه السياسية التي لا يصح معها اتهامه بالعمالة لامريكا ، وهو عدو سياساتها اللدود ، بينما جارى اخرون التيار الشعبي المهيمن بموقفه ، رغم قناعاتهم المعاكسة .
وها نحن اليوم نعيش نفس الحالة ، عقب المجزرة الصهيونية ضد ابناء غزة ، فهناك قمع شعبي لكل من يقول كلمة معارضة لما يجري ، يترافق مع قمع اعلامي تمارسه بعض المواقع الاعلامية ، التي تتماشى مع هذا التيار السائد ، رغم ان كلمة الحق هذه لا تؤيد – لا سمح الله- قتل العدو للاشقاء ، بل هي كلمة حق بوجه من يسعى الى ترسيخ الانقسام الفلسطيني ، وشطب المكاسب السياسية التي حققها هذا الشعب بنضاله الطويل ، من خلال ممثله الشرعي والوحيد ، منظمة التحرير الفلسطينية ، وبدافع الغيرة على فلسطين وشعبها والامة العربية ، فاصبح كل من يقول كلمة الحق عدوا للمقاومة ، ومنهزما واستسلاميا ... الخ ، وعلت اصوات تطالب باغلاق المواقع الاعلامية ، امام أي رأي آخر ، فما اشبه الليلة بالبارحة .
m_nasrawin@yahoo.com