لم يعد يشد انتباهي الهدوء التام والحركة الدؤوبة المنظمة للطلبة والعاملين وحتى المراجعين من أولياء امور الطلبة أو ممن يأتون لتسلم معوناتهم الشهرية فقد أصبح كل ذلك منظرا مألوفا بالنسبة لي في كل مرة أذهب فيها لزيارة الأب أندرو مدير مؤسسة الأراضي المقدسة لرعاية الصم في مدينة السلط وتعودت كذلك لقاء بعض المتطوعين الشباب من كلا الجنسين ومن جنسيات مختلفة وهم في غالبيتهم طلبة جامعيون يقضون جزءا من إجازاتهم في العمل التطوعي بمؤسسات خيرية تؤمن لهم المنامة والوجبات الغذائية .
كان الأب أندرو برفقتي مودعا باتجاه الباب الخارجي للمؤسسة عندما وقفت أرقب رجلا وإمرأة بملامح آسيوية يعتنيان بنبتة صغيرة في حديقة المؤسسة وكأنهما يداعبان مولودهما الجديد الذي تاقا لرؤيته بعد أن تجاوز أصغرهما سن الستين ، يتناوبان لملمة الحصى وبعض المخلفات من حوض الزهور حينا ويكنسا الأرصفه والشوارع الداخلية حينا آخر . أحس أندرو برغبتي بالإقتراب منهما أكثر ومعرفة شأنهما فبادرني القول بأنهما زوجان قدما من اليابان قبل بضعة أيام لممارسة العمل التطوعي لديه مضيفا أنهما برغم التقدم في السن ما زالا يتمتعان برغبة وقدرة على العمل تجعلهما لا يتأففان من أي عمل يوكل إليهما أو يقترحانه بناء على تقديراتهما لضرورته للمؤسسة
اقتربنا منهما أكثر حيث قدمني لهما الأب أندرو كصديق للمؤسسة من أبناء المجتمع المحلي تبادلنا التحية وقليلا من الحديث قبل أن يستأذننا الرجل ليحضر ورقة مطبوعا عليها سيرته الذاتية من حقيبته في غرفة الإستراحة وكم كانت دهشتي كبيرة عندما إطلعت على ما ورد فيها من معلومات تشي بعلو شأنه في بلده من خلال سجل الوظائف والمواقع التي عمل فيها فهو الآن رئيس هيئة المديرين لمؤسسة الإذاعة التعليمية اليابانية بعد أن عمل في هيئة الإذاعة والتلفزيون اليابانية مدة ثلاثين عاما كان قد تدرج بمواقع المسؤولية فيها إلى أن أصبح مديرا للتلفزيون . أما زوجته فقد عملت هي الأخرى مرشدة نفسية في وزارة العدل اليابانية قبل أن تتقاعد وتصبح حاليا رئيسة لإحدى جمعيات حقوق الإنسان في طوكيو .
استأذنت الأب أندرو وضيفيه بالمغادرة وقد ازدحمت ذاكرتي بصور عديدة لمسؤولين في بلدي ما أن وصل أحدهم رئاسة قسم في دائرته حتى بدا له وكأنه مالك الأمر كله وما على الآخرين سوى حمد الله وشكره إن هو منّ على أحدهم بابتسامة أو كلمة مجاملة .
mustafawaked@hotmail.com