كانت العرب قديما ، وحديثا في البادية حين كانت الغزوات القبلية في الجاهلية الثانية تحدث بين فريقين .. تحترم الخصم ، ولا تهضم حقه المعنوي أبدا .. ويظهر ذلك جليا في قصائد الفخر التي كان شعراء القبائل ينظمونها في إبراز شجاعة فرسانهم ، ومدح شيوخهم ، ورسم صورة الهزيمة لعدوهم .. وأستطيع ان أورد أمثلة عدة ، تبدأ بمدح الخصم وإيفاء حقه المعنوي ثم ، يختصمون بانتصارهم وتذكير بعضهم بمواقع الهزيمة والنصر .
في أيامنا ، تبدلت الصورة ، لأن الوجه الأصلي أصبح قابل للتبدلّ والتغيرّ و والتشكل حسبما تقتضيه المصلحة الخاصة .. وهذا ما يدعونا الى تذكر المثل الشعبي " ما يفكك من صاحبك إلا وجهك " بمعنى إن صاحبك يبقى يحترمك ما دام وجهك بوجهه ، وان أدرت وجهك عنه ، لاكتك ألسنة القوم .. وتلك هي النذالة بعينها .. فأسأل وتسألون .. كم شخص يرى في نفسه إنه "أبو زيد الوطني " وهو نذل ، ليس له وزن أكثر من وزن ورقة الدولار على ميزان "الدكنجي " .
في الأردن تستمر ظاهرة " السعادين " في تطور .. فتلك لا تفلت غصن من يدها إلا وهي تتلقف الغصن الآخر باليد الأخرى .. وأن لم تستطع باليد فلا بأس بالقدم .. وإن لم تستطع فباللسان .. وعلى سيرة اللسان : فكم من لسان نضم قصائد المديح ، ولعق ما لعق ، أياما طويلة ، ثم حينما انتهت مصلحته ، عاد بنفس الفم واللسان ليملأ صورته المحبوبة بالبصاق والشتم والتشويه .. وتلك لعمري عادة الجبناء المطبلين للقادم الراجمين للذاهب
ذلك هو مقتلنا .. في الوجوه المتقلبة ، والقلوب المريضة ، والأنفس الرخيصة ، التي لا تقدم رغيف إلا وتريد عشرة في المقابل .. والمحاصصة أضحت شرطا من شروط الوظيفة العليا ، و طاولة التفاهمات النيابية ، والإصطفاف الصحفي .. وهذه الوجوه المتقلبة أشبه ما تكون بالفأرة التي هدمت سد مأرب ، فيرجى الحذر منها ، فهي لا يعول عليها في شيء، ولا يؤمن جانبها .. ولو وقعنا لا قدر الله في وجه العدو ، ستكون تلك الوجوه الباردة بكل صفاقتها في حضن العدو ، تشي له بكل ما يبحث عنه في وطننا .
وللأسف فإن إحدى مشاكلنا في الأردن إننا لا نعرف ماذا نريد .. ولو استعرضنا كل المعضلات الموجودة على الساحة سنجد إن كثيرا من الفلاسفة والنقـّاد والمفسرين والمئولين وتجار الإشاعات ، ومتعهدي الجلد أو المحذرون من أخطار تحدق بنا ، تغيب عنا كثير من المعلومات الدقيقة ، واللوحات الإرشادية لمستقبل هذا البلد ، فكلنا نريد شيء معين نخبئه وراء شغاف قلوبنا .. وكلنا لا نريد أشياء لو كانت لنا لاستبسلنا في الدفاع عن وجودها .
لذلك فإن هناك فئة من المسؤولين والمواطنين لا يهمهم سوى ما يقع في فناء مصالحهم ، وتلك ليست مشكلة طارئة أو حديثة ، بل هي جاءت نتيجة إرهاصات الواقع .. وإسقاطات الأيام التي تدحرجت فيها كثير من الرؤوس من على "كراسيها " .. وضاعت من بين أيديها مفاتيح الفرج وصناديق الذهب ، وحين ذهب عنها طيش المسؤولية ، غابت عنها مقومات وجودها .. والسبب إن ارتباطهم الوظيفي بعد اختيارهم كان ارتباطا مصلحيا بالدرجة الأولى ، وهذا ما أثرّ على عدد من ناصعي الصفحات الذين يرون ان بياضهم النظيف ، أصبح كالبهاق في وجه أسمر .. يشوه الصورة دون أن يغير في واقع اللون .
ولذا فليس من الغريب هذه الأيام إن نكتشف ان الأردن أصبح عقيم .. لم يعد ينجب أبناء بررة ، ولا زعامات وطنية ، ولم يعد له بسيط حظ في تلك الشخصيات التي حسبت عليه شخصيات وطنية ، وليس لها من السياسة سوى سوسها ، فتسربلت بثوب السياسة ، وهي لا تستطيع ان تسوس حصان .. لذا فلنا أن نجلس ونكتشف كل عام أسماء جديدة في بورصات الشخصيات " الكارتونية" التي تلقى رواجا كبيرا لدى جمهور الأطفال ، ومحبي المتابعة وهم منبطحون على بطونهم .. وعليه فلن نسأل كيف لا يخرج رجل واحد يستطيع قراءة المشهد المحيط بالأردن .. أو يعطينا تفسيرا دقيقا لما يجري على هذه الارض وما أمطر الله حولها !
والدارس في التاريخ الأردني يجد إن كل هذا التاريخ لم يسجل يوما أن هناك رجل قطع لسانه ، أو شنق أمام الجامع الحسيني لأنه حمل في رأسه فكرا مغايرا ، أو طرد من رحمة هذا البلد .. بل على العكس ، كل من عارض تكسبّ وعلى "ظهور الشعب " حـُمل وحملت أسرته الصغيرة .. في المقابل ليس عجبا أن نرى رهطا من المعارضة هم من أصحاب المصالح الخاصة ، والأموال المستحلبة من الشوارع الخلفية للعمل العام ، فهي قد استطاعت من خلال معارضتها هنا ، وتأييدها هناك ، من حصد جوائز قيمة .. مع إن الحال "هنا " أو أفضل ألف مرة من الحال " هناك " .. ولن أحصر المسألة بمثال واحد عن كوبونات النفط العراقي زمن الرئيس الراحل صدام حسين .. بل سأترك الخيارات للقارىء لتقدير المثال الأنسب .
أخيرا أرجو إضافة تذكير للبعض بأن أي قرية فقيرة معوزة في هذا الوطن هي أقرب كثيرا من دمشق ، ليهرول البعض لها بغية الاستئثار بمقابلة الأستاذ خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس ، للأسبوع الثاني بعد ان انتهز غيرهم فرصة النصف ساعة فقط التي سمح لهم بمقابلته ..
عموما أعتذر عن مقالتي التي شطبتها أمس لإصابتها بفيروس أدى الى زكام شديد في أنف الحروف .. لذا سأكتب يوما ما شيء من كلام تحت عنوان : شعب يقتل أبناءه ويحيي أعداءه .. شكرا لكم
Royal430@hotmail.com