كيلاني يكتب لـ عمون: قراءة في كتاب "شهادات على القرن الفلسطيني الأول"
كمال الكيلاني
28-09-2017 12:12 PM
في الفقرات التالية من كتاب “شهادات على القرن الفلسطيني الأول” يطرح الكاتب والمؤرخ الفلسطيني إلياس نصرالله القصة الحقيقية الكاملة لضحايا نكبة الشعب الفلسطيني شملت جميع الفلسطينيين من بينهم أولئك الذين نجحوا في البقاء في وطنهم، واشتمل الكتاب على شهادات حية لتجاربهم قبل النكبة وبعدها، بالإضافة إلى أحداث تروى لأول مرة تشكل جزءاً لا يتجزأ من سجل وقائع نكبة فلسطين المستمرة التي لم تكن حدثاً “وقع عام ١٩٤٨ وانتهى في ذلك العام، بل هي نكبة متواصلة تداخلت تفاصيلها وتنوعت وأصبح تدوينها أمراً ملحاً”.
كان الكاتب طرفاً في تلك الأحداث وله علاقة برموزها، وشاهد عيان عليها في حياته العملية الشخصية، وقام بتدوينها كمراقب ومشارك في الأحداث المروية منذ عام ١٩٦٧ إلى اليوم. فدوّن ما حدث له شخصياً وما حدث لعائلته، وجاءت بعض هذا الأحداث مطعمة بحكايات من التراث الشعبي الفلسطيني التي سمعها مباشرة من كبار السن في عائلته. فلم يتوقف أبناء فلسطين جيلاً بعد جيل عن رواية ما حدث لهم. ويحتل الجزء المسجل من هذه الروايات التي سمعها الكاتب مباشرة من أصحابها، بالصوت والصورة، أهمية كبيرة لأنه جزء أساسي من ذاكرة الشعب الفلسطيني وتاريخه.
يقول المؤرخ البريطاني إريك هوبسباوم في مذكراته الشخصية: “إننا في القرن الحادي والعشرين نحتاج إلى الكثير من المؤرخين أكثر من أي فترة سابقة في تاريخ البشرية”. ويضيف هوبسباوم: “إن عصر المؤرخين الكلاسيكيين الذين كان الواحد منهم يكتب تاريخ حقبة معينة من الزمن أو تاريخ واحدة من الإمبراطوريات العظمى انقضى”. ويرى أن كل شخص يكتب هذه الأيام قصة حقيقية وقعت له فهو مؤرخ، وتلعب الثورة الحاصلة في تكنولوجيا المعلومات دوراً مؤثراً في كتابة التاريخ وتزيد من فاعلية هذا النوع من المؤرخين.
سيدرك القارئ مما اقتطفته له أن أحداث هذا الكتاب تمتد على مدى أكثر من قرن من الزمن لذلك فإن العدد الكبير من الشباب الفلسطيني الذين ولدوا في فترات لاحقه لنكبة عام ١٩٤٨ يجهلون أو يعرفون النزر اليسير عما حدث، قبل النكبة وبعدها، للشعب الفلسطيني بما في ذلك يعود – كما يقول الكاتب إلى “الصدمة التي تلقاها الشعب الفلسطيني ولما لاقاه من أهوال وشدائد يصعب وصفها، سببتها الممارسات العميقة والحكم العسكري الذي مورس عليهم. فكان الناس يخافون حتى من سرد ما حدث لهم من مآس وتشرد وضياع لأرزاقهم، على أبنائهم ويكتمون ذلك. في صدورهم: فالشعب الفلسطيني انتكب وحرم من فرصة الحصول على استقلاله الوطني وهدمت مدنه وقراه وتشردت جموعه وضاع مستقبلها الشخصي ومستقبل أبنائها ودمرت ممتلكاتها الشخصية أو نهبت وصودرت أراضيهم وبيوتهم… فقام الكاتب بتسجيل الكثير من وقائع هذه الفترة على هذه الوقائع والشهادات التي تساهم في حفظ هذا الجانب من تجربة الشعب الفلسطيني وتاريخه.
يقول البروفيسور قيس فرو الرئيس السابق لقسم تاريخ الشرق الأوسط في جامعة حيفا في معرض تقديمه لهذا الكتاب: “كلما أنهيت قراءة فصل من فصول هذا الكتاب كان اقتناعي يزداد بأن إلياس نصرالله قدم عرضاً يمتزج فيه الماضي بالحاضر والمستقبل، مكوناً زمناً فلسطينياً واحداً يذكرنا بما قاله سان أوغسطين (٣٥٤-٤٣٠) حول مفهوم الزمن، حين يطرح السؤال التالي: “ما هو الزمن؟ لو يسألني أحد عنه، لعرفت. ولكن لو أردت أن أفسر معناه لسائلي عنه، لما عرفت”. أجاب سان أوغسطين عن سؤاله على النحو التالي: “إن إدراك الزمن هو نوع من “نفخ” العقل والروح، ندرك بواسطته الأْزمنة الثلاثة مرة واحدة: الماضي بالذاكرة، الحاضر بالانتباه، والمستقبل بالتوقع”. ثم شبه هذا الإدراك بشفرة السكين التي تفصل الماضي عن المستقبل من دون أن يكون لهذا الفصل مدى زمني محدد”. فبالتذكر المتيقظ صوّر إلياس جوانب من ماضي فلسطينيي الداخل والشتات، وبالانتباه ألقى أضواء على مأساتهم المستمرة، وبالتوقع استشف مستقبلاً فلسطينياً محفوفاً بالمخاطر:
وأردف البروفسور قيس فرو يقول: “مع أن استعادة أحداث الماضي ووصفها كما حدثت في الواقع هي مهمة مستحيلة، إلا أن قدرة إلياس على السرد والربط بين الأحداث أكسبت بناءه التاريخي تماسكاً مقنعاً. تعزز هذا التماسك نتيجة جمع سرديات متعددة معتمدة على مصادره الشفوية وغير الشفوية”… إلى أن يقول: “…ورغم الاختلاف بين منهج التعامل مع المصادر المكتوبة ومنهج التعامل مع المصادر الشفوية القائمة على الذاكرة الشخصية، إلا أن مقاربة إلياس المعرفية لمفهوم الحدث التاريخي منحت المصادر الشفوية المعتمدة على التذكر منزلة تساوي منزلة المصادر المكتوبة، وفي أحيان كثيرة. أكثر منها صدقية (…) أما إلياس فقد وسع هذا المفهوم البسيط للتاريخ، حيث لم يكتف باستحضار ذاكرته الشخصية، وإنما زودها مصادر متعددة ساعدته على انتاج تاريخ حافل بالأحداث، جعلت منه مؤرخاً “بنفسه ولنفسه ولغيره”. مع أن الذاكرة ظلت الوسيلة المركزية في بنائه التاريخي، إلا أنه عندما شعر بأنها لا تكفي، لجأ إلى الأرشيفات وإلى مقالاته الصحفية التي كتبها في الماضي واستعان بذاكرة آخرين. كل هذا حوّل سرده التاريخي في هذا الكتاب إلى سرد مساوٍ لسرد المؤرخين المحترفين (…) لكن إلياس أثبت أن كتابة التاريخ بأسلوب أدبي لا تؤثر سلباً في منهجيته، مثبتاً بذلك صحة قول أحد المؤخرين بأن من لا يستطيع كتابة قصة، لا يستطيع أيضاً، كتابة التاريخ”.
“كثيرة هي أسماء الفاعلين أو الأبطال التاريخيين الذين ذكرهم إلياس في فصول كتابه، باحثاً، عن وجهة نظرهم وعن أفعالهم، مستخدماً بذلك وسائل الاستدلال والحدس، ومحاولاً استكشاف منطق دوافعهم ليضعه على منصة فهمه التاريخي. فهو مثل المؤرخين الحرفيين لم ينقل الشهادات الشفوية ونصوص مصادره من دون تفحص معانيها الداخلية متوقفاً، في كثير من الأحيان، على السياقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية العامة التي أثرت في دوافع وأفعال الناس الذين سرد قصصهم. في هذا التوقف أدمج بين أفقهم الثقافي – المتمثل بظروف حياتهم في زمن الأحداث – وبين أفقه الشخصي – المتمثل بفكره ومواقفه. ومع أنه لم يلغ نفسه ولا أفقه، إلا أنه نجح في توسيع أفق الذين سرد قصصهم، حين ربط أعمالهم وأقوالهم بأحداث تاريخية كبرى حصلت على الساحة الفلسطينية والعربية. هذا الربط جعل من زمان ومكان قصصه “زمناً ومكاناً تاريخيين” فيهما الماضي صنع حاضراً فلسطينياً مأساوياً ينبئ بمستقبل لا يمكن تحديد معالمه. فسرده لأحداث الماضي وربطها بالحاضر والمستقبل أنتج سرديات تاريخية من النوع المفعم بشواهد من الحياة اليومية للفلسطينيين، ومن النوع الذي ربط مفاصل سلسلة الأفعال بسياقاتها .. وفي سردياته المفعمة بذكريات من الماضي البعيد والقريب، عبر إلياس عن موقفه الإنساني والوطني من أحداث، من دون أن يهمل تقاطع سردياته مع سرديات أشخاص آخرين لكل منهم موقف من الأحداث، مكوناً بذلك سرديات أوسع للعائلة والقرية والمدينة والوطن.
كان إلياس مقنعاً حين اعتمد على الذاكرة المزودة مصادر أخرى أنتجت تاريخاً ذا صدقية، وتوخى أن يعرض الذاكرة الجمعية التي تعرف إليها من عائلته وقريته ومن عائلات فلسطينية كثيرة حملت معها روايات وقصصاً من ماضي يعود إلى الفترة العثمانية ومن بعدها البريطانية، خصوصاً فترة نكبة فلسطين والشعب الفلسطيني عام ١٩٤٨ التي لا تزال مستمرة إلى اليوم. مع ذلك لم يكتف بما استقاه من الذاكرة الجمعية وراح يبحث في الشهادات الشفوية وفي المواد المكتوبة ليدعمها، ويصححها ويفند بعضها. من هنا، لجأ إلى الأرشيف الوطني الاسكوتلاندي وأرشيفات الصحف المتعددة وبعضها في إسرائيل، آخذاً بالحسبان أن وثائق الأرشيفات ناتجة أحياناً من نشاط تأويلي قائم على اهتمامات ورغبات الفريق المشتغل فيها. هذا الفهم لطبيعة الأرشفة جعله مهيأَ ومنفتحاً على المعاني الكثيرة للسؤال “ماذا؟ ولماذا؟ وكيف؟”، مع ذلك لم يزعم أنه وصف الأحداث كما حصلت في الماضي، وإنما اعتبر سردياته بديلاً صادقاً عن هذا الماضي – مزوداً قرائن وشهادات نجح في جمعها من الفلسطينيين العاديين ومن اللاعبين السياسيين على الساحة الفلسطينية، وخلافاً للسرديات التاريخية المعتمدة في جلها على الأرشيفات، استعمل إلياس مصادر متنوعة في بناء سردياته وشهاداته وقدمها على شكل قصص فيها “الحبكة” التي تمنح الكتابة التاريخية نكهة محببة عند القارئ.
اثبتت سرديات الكاتب الصغرى – المحلية والمحددة من حيث الزمان والمكان والمبنية على القصص المعيشية – قدرة السرديات الفلسطينية على مقارعة السرديات التاريخية الصهيونية، واستندت سردياته في أغلب الأحيان، إلى مرجعية تعود إلى ماض متذكر وإلى شهادات شفوية لم تتوقف على كشف جوانب غير معروفة من تاريخ الفلسطينيين فحسب، بل فتحت أمام دارسي الإنثروبولوجيا والثقافة الفلسطينية أبواباً جديدة يمكن الاستفادة منها.
أثبتت سرديات إلياس في هذا الكتاب إمكانية التعويل على الشهادات الشفوية واعتبارها شرعية ذات صدقية تنسجم كثيراً مع الشهادات المكتوبة التي لم يهملها. مع هذا، فقد أشار في سياقات كثيرة من كتابه، إلى أن التعويل على الشهادات الشفوية لا يعني قبولها بشكل مطلق على أنها تمثل الماضي الواقعي كما كان. التعويل على هذه الشهادات نابع عنده من قدرتها على وصف مشاعر المشتركين في الأحداث التي لا تستطيع الوثائق نقلها، وتمتاز هذه السرديات بالحوارية بينه وبين شهاداته الشفوية التي تختلف عن حوارات المؤرخين “الوثائقيين” مع وثائقهم. في هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى أن غالبية الوثائق هي في الأصل مادة شفوية منقولة أو مادة مفكر فيها في وقت الكتابة، وهي معرضة للانحياز والتحريف، تماماُ مثل الشهادات الشفوية القائمة على التذكر. ولكن، من الملاحظ أن الشهادات الشفوية التي اعتمد عليها إلياس في كثير من الأحيان حوادث غير معروفة، وجوانب غير معروفة من حوادث معروفة، وألقت ضوءاً على مجالات من الحياة اليومية للفلسطينيين.
مع أن إلياس اتبع منهج “الوصف المكثف” الذي جمع بين القصة الواحدة المتسلسلة زمنياً وقصص اختلطت فيها الأزمنة، إلا أننا نستطيع أن نميز بين أربعة أزمان حددتها أربعة أمكنة: ١- زمن طفولته في بلدته شفا عمرو، ٢ – زمن شبابه الذي قضاه متنقلاً بين بلدته والناصرة وحيفا، ٣ – زمن تعليمه الجامعي في القدس وبقائه فيها مدة طويلة يعمل في الصحافة ونشر الكتب، ٤ – زمن هجرية القسرية إلى لندن، متابعاً عمله الصحافي.
هذه الأمكنة والأزمنة الأربعة حددت مضمون وشكل فصول كتابه. في الفصول الثلاثة الأولى، قدم إلياس قصصاً معتمدة على ما حدث لأبناء عائلته وبلدته، قسم منها يعود إلى الفترة العثمانية والقسم الأكبر إلى فترة الاحتلال البريطاني ونكبة فلسطين عام ١٩٤٨ التي استمر تأثيرها المباشر سنين طويلة. من خلال قصص حية عن حيفا قدم إلياس “وصفاً مكثفاً” تناول فيه تطور المدينة الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، استعرض فيه بناء مينائها ومصانعها ومطاعمها ومسارحها، وظهور النخبوية الجديدة وشرائح عمالها المنظمين في نقابات لعبت دوراً في الحركة الوطنية الفلسطينية. لأن السرد التاريخي اختلط عنده بقصص أبناء عائلته جعل إلياس من “شركة باصات الكرمل” الفلسطينية (اشترك في إقامتها وتشغيلها أبناء عائلته وعائلات أخرى من شفا عمرو) قصة فيها بداية وحبكة ونهاية مأسوية.
بنى المؤلف من قصصه – حول تهجير سكان حيفا ومعركة هوشه والكساير وسقوط شفا عمرو ولجوء عائلته إلى لبنان – سردية صغرى لنكبة فلسطين عام ١٩٤٨، أدمج فيها عن قصة سيطرة الجيش الإسرائيلي على أراضي عائلته والباصات التي كانوا يملكونها وقصص عائلات هُجرت إلى لبنان والأردن عاد قسم منها بعد النكبة متسللاً عبر الحدود في قصص العائدين إلى الوطن أبرز المؤلف دور (سليم شحادة أبو رجينة) الذي استمر في عمليات التسلل حتى عام 1959، نجح خلالها في إعادة عائلات وأفراد فلسطينيين إلى الوطن.
وسرد إلياس قصصاً عن طفولته وشباباه على شكل “وصف مكثف” للحياة القروية، لا ينتبه إليها إلا انثروبولوجيون متخصصون في دراسة المجتمعات القروية. جمع في هذا الوصف صور الحياة الزراعية وأدواتها ومواسمها، والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أدت إلى تقويض ثقافة القرية الفلسطينية في الداخل، ولم ينس أن يُضمن هذا الوصف تأثير الحكم العسكري الإسرائيلي المدمر للبشر والحجر والشجر، وختم فترة طفولته وشبابه بقصص حول نكسة ١٩٦٧ التي كرست معاناة النكبة المستمرة، ملخصاً تلك الفترة بالكلمات التالية “كانت طفولتي مثل غيري من أبناء جيلي من الفلسطينيين داخل إسرائيل مجبولة بالسياسة بفعل أحداث النكبة ولجوء عائلتي الي لبنان وعودتها إلى شفا عمرو لاحقاً والعيش في ظل الحكم العسكري الإسرائيلي”.
تزامنت نكسة ١٩٦٧ مع بداية دراسته الجامعية وانتقاله ليقيم في القدس. حيث قضى سنوات تعرف خلالها إلى معاناة سكان القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة من الناس العاديين والنخب الفلسطينية السياسية والمثقفة الذين بنى معهم شبكة علاقات زودته قصصاً تروي سردية الاحتلال والاستيطان والنضال ضدهما. كان لانتمائه إلى الحزب الشيوعي عام ١٩٦٨ أثر في نشاطه السياسي الذي حاولت المؤسسة الإسرائيلية كبحة بأوامر عسكرية، لم تثنه عن مواكبة الحياة السياسية الفلسطينية ومساعدة سكان الأراضي الفلسطينية والسورية التي احتلتها إسرائيل عام ١٩٦٧ في نضالهم ضد الاحتلال.
من خلال نشاطه السياسي في الجامعة وشبكة علاقاته الواسعة تعرف إلى المحامية فليتسيا لانغر، ليصبح أحد مساعديها، فتلك التجربة زودته أدوات العمل الصحافي وقادته إلى العمل فيه، بدءاً بصحيفة “الاتحاد” ثم صحيفة “الشعب”، لينتقل إلى صحيفة “الفجر” ويؤسس بعدها صحيفة “الطليعة”، حيث تحولت مقار هذه الصحف إلى أماكن تجمعت فيها النخب السياسية والثقافية والتقدمية من القدس والضفة الغربية وقطاع غزة.
فالنشاط الصحافي وشبكة علاقاته المتشعبة وضعا إلياس في قلب الأحداث التي سردها على شكل قصص صورت جانباً لا يعرفه القارئ الفلسطيني والعربي، من بينها قصة اختطاف يوسف نصري نصر صاحب جريدة “الفجر” وقصة اعتقال سلطات الاحتلال الإسرائيلي بشير البرغوثي، القيادي الشيوعي البارز، واتهامه زوراً بالتجسس لحساب الأردن، التي وصف فيها إلياس المحكمة بأنها “أغرب حالة شهدتها الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ ١٩٦٧”، وقصة اعتقال المطران إيلاريون كبوتشي بتهمة تهريب الأسلحة لرجال المقاومة الفلسطينية، حيث واكب محاكمته ونقل تفاصيلها … وانتهت هذه الفترة من حياته عندما سافر مع زوجته إلى لندن منتقلاً بذلك إلى مرحلة جديدة حافلة بتجربة غنية في العمل الصحافي، زودته معرفة ما يدور بأروقة الصحف العربية في لندن التي عمل في بعضها وتزود منها قصصاً كثيرة أضافها إلى سردياته التاريخية منها قصة علاقته برسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي الذي اغتيل في لندن عام ١٩٨٧ الملأى بمعلومات جديدة.
وقصة حصول الكاتب إميل حبيبي على جائزة إسرائيل للأدب. وقصة أحمد عثمان الأسير المصري في سجون الاحتلال الإسرائيلي. حيث قدم إلياس سرداً جديداً فيه من المعلومات ما يصلح لكتابة رواية أدبية فيها كل عناصر التحبيك القصصي الذي يتقنه.
استفاق وعي إلياس التاريخي بعد اتهام نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، الحاج أمين الحسيني أنه صاحب فكرة الهولوكوست، مزوداً معلومات تاريخية مكتوبة ووثائق من الأرشيف الوطني البريطاني، ختم إلياس كتابه بفصل حول هذا الموضوع يصلح أن يكون مقالة تاريخية فيها كل عناصر التاريخ الحرفي.
إن التوسع في سرد الأحداث في هذا الكتاب أثرى سردياته التاريخية وأكسبها معنى تاريخياً يمكن الاستفادة منه في كتابة تاريخ فلسطين المعاصر وعرض سرديات بديلة عن سرديات الكتابة التاريخية الصهيونية.
يقول إلياس: كان لمحاولة اغتيال صديقي ناجي العلي في ٢٢ تموز/ يوليو ١٩٨٧ وقع الزلزال على نفسي وعلى أفراد عائلتي. وكنت تعرفت إليه في ربيع عام ١٩٨٥ عن طريق قريبه وصديقي الدكتور حاتم ياسين، فكلاهما من قرية السجرة القريبة من بحيرة طبريا في الجليل بفلسطين، وقد حُفظ اسم قرية السجرة في الوجدان الفلسطيني باستشهاد الشاعر الفلسطيني المعروف عبدالرحيم محمود عام ١٩٤٨ في الدفاع عن هذه القرية، وبأن أصبحت بعض عائلاتها تكنى باسم السجراوي نسبة إلى قرية السجرة التي هدمتها إسرائيل وأقامت على أنقاضها مستوطنة يهودية، لكنها لم تقدر على محوها من ذاكرة الشعب الفلسطيني المتوارثة جيلاً بعد جيل…
لم يمض وقت طويل على عودة ناجي العلي إلى الكويت من لندن حتى وقع نظري على مقال منشور في جريدة “القبس” الكويتية يوم ٢٢ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٨٥ تحت عنوان “ناجي .. وداعاً وأهلاً وسهلاً” بقلم رئيس تحرير الجريدة محمد جاسم الصقر. قرأت المقال بلهفة لمعرفة إذا كان ناجي قد تعرض لسوء، فإذا بالمقال يبدأ بالفقرة التالية: “(حنظلة) الصغير البريء الحافي ينقل خطاه الآن، متشبثاً بيد زميلنا العزيز ناجي العلي، متوجهاً إلى لندن، راحلاً منا إلينا”.
واصل الصقر قائلاً: “ناجي العلي ينتقل الآن إذن من مكاتب القبس في الكويت إلى مكتب القبس في لندن (…)”
أثناء وجودي مع ناجي العلي قال لي إن الحكومة الكويتية أصرت على أن يغادر الكويت لأنها شعرت بالخطر على حياته من عرفات، وأن المسؤولين الكويتيين قالوا بالحرف الواحد لمحمد جاسم الصقر: لم نعد قادرين على حماية ناجي العلي، فالكويت لا تريد أن تتحمل دمه”…
منذ تعرفت إلى ناجي وجدت فيه إنساناً مسكوناً بالهم الفلسطيني، هم العودة إلى وطنه فلسطين ووضع حد لحياة اللجوء التي عاشها ومعه ملايين الفلسطينيين، في مخيمات اللاجئين الموزعة في الدول العربية وغيرهم المنتشرون في جميع أنحاء العالم، ورأى ناجي أنه من المستحيل تحقيق هذا الهدف مالم تتحرر فلسطين، فاعتبر هذه المسألة خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه، الأمر الذي جعله يصطدم بحركات المقاومة الفلسطينية التي بعد خروجها من لبنان في صيف ١٩٨٢، شرعت في اتباع تكتيكات عمل سياسية رأى فيها ناجي مهادنة للعدو وتنازلاً عن مبادئ الثورة والكفاح من أجل تحرير فلسطين، ولن تؤدي في النهاية إلى تحقيق الهدف المنشود.
أبرز الكاتب في الفصل التاسع عشر من كتابه واقعاً لم يكن معروفاً، وهو أن هيربرت صموئيل أول مندوب سامٍ بريطاني على فلسطين وهو يهودي صهيوني معروف ساهم في إصدار وعد بلفور وسبق له أن دعا في عام ١٩١٦ إلى وضع فلسطين تحت حماية بريطانيا تمهيداً لإقامة وطن قومي فيها لليهود. حال وصوله إلى فلسطين بدأ صموئيل العمل على استرضاء المعارضة الشعبية الفلسطينية لبريطانيا ولمشروعها في فلسطين فأصدر عفواً عن الحاج أمين الحسيني وسمح له في عام ١٩٢١ بالعودة إلى فلسطين من شرق الأردن، وشاءت الظروف بعد عودته بفترة قصيرة أن توفى المفتي كامل طاهر الحسيني، الأخ الأكبر للحاج أمين. ونظراً لأن رئاسة بلدية القدس منحت سابقاً لعائلة النشاشيبي، رأى المندوب السامي البريطاني إبقاء منصب الإفتاء في يد عائلة الحسيني، فتم تعيين الحاج أمين مفتياً للقدس عام ١٩٢١ خلفاً لأخيه كامل، رغم وجود من هم أكفأ منه بين رجال الدين في القدس، وكان بينهم الشيخ موسى البديري… وقام هيربرت صموئيل بتعزيز مكانة الحاج أمين وجعل منصبه مدى الحياة، وسارع صموئيل في عام ١٩٢٢ إلى تشكيل المجلس الإسلامي الأعلى برئاسة الحاج أمين، وذلك لضمان تنصيبه زعيماً على فلسطين. ولم يكن للشعب الفلسطيني دور في هذه العملية التي تمت بشكل غير ديمقراطي.
فما كان في ذهن بريطانيا هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، رغم أن اليهود كانوا أقلية بين سكان فلسطين (٢٥ ألف يهودي بموجب إحصائيات بريطانيا من عام ١٩١٩)، فكان على بريطانيا جلب المزيد من يهود العالم إلى فلسطين وتوطينهم فيها لكي يتفوقوا عددياً على أهلها الفلسطينيين غالبية السكان… وحاول هيربرت صموئيل التحايل على الفلسطينيين بطرائق وأساليب شتى، أولها تنصيب زعماء على الشعب الفلسطيني أعتقد أنهم سيخضعون لإدارة بريطانيا، مثل الحاج أمين وراغب النشاشيبي، وتعيين آخرين في مناصب أخرى في إدارة حكومة الانتداب البريطاني والمؤسسات غير الحكومية في فلسطين. وقضى هيربرت صموئيل السنوات الخمس التي تولى فيها منصب المندوب السامي في العمل على تخفيف معارضة الفلسطينيين لمشروع الدولة اليهودية الذي لم يكن أمام بريطانيا سوى فرضه بالقوة على الشعب الفلسطيني…
بادرت تجمعات مختلفة من الفلسطينيين إلى تأسيس أحزاب سياسية كان أولها الحزب الوطني العربي عام ١٩٢٣، تبعه في العام نفسه حزب الزراع الفلسطيني وحزب الأهالي الفلسطيني عام ١٩٢٧، وأحزاب أخرى.
منذ البداية ناصب الحاج أمين الحسيني كل هذه الأحزاب العداء وأتهم قادتها والمنتمين إليها وأتباعها بالعمالة إلى بريطانيا، وبرزت الخلافات بين ما أطلق عليه في حينه زعامات شمال فلسطين، خصوصاً عكا وحيفا والناصرة، وزعامات جنوب فلسطين المتمثلة بالحسنيين (عائلة الحسيني وأتباعهم) الذين اصطدموا بالعائلات الأخرى في القدس، وجنوب فلسطين مثل عائلة النشاشيبي وغيرها. وبلغت المشاحنات والصدامات بين الطرفين أوجها في منتصف عقد الثلاثينيات ووصلت إلى حد التصفيات الجسدية لأبناء العائلات والأشخاص الذين كان أمين الحسيني يخشى نفوذهم في أكثر من ناحية في فلسطين، على نحو فرض على المجتمع الفلسطيني جواً من الإرهاب الجسدي والفكري كانت له تبعات خطيرة على مسيرة العمل الوطني الفلسطيني بشكل عام استفادت منه كثيراً بريطانيا والحركة الصهيونية.
في موضع آخر من الفصل يشير الكاتب إلى مقابلة أجرتها صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية في ١٦ نيسان/أبريل ٢٠٠٤ مع المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس قال فيها إن القيادة الإسرائيلية فشلت عام ١٩٤٨ في تنظيف فلسطين عرقياً من الفلسطينيين مثلما جرى مع أصحاب الأرض الأصليين في القارة الأميركية “الهنود الحمر”، إذ وصف ما جرى للهنود الحمر قائلاً: “حتى الديمقراطية الأميركية العظيمة لم يكن بالإمكان خلقها من دون القضاء على الهنود الحمر. فهناك حالات تكون الحصيلة الإجمالية فيها أن النتيجة الجيدة في النهاية تبرر الأعمال الخشنة والقاسية التي يجري ارتكابها في مجرى التاريخ.”
ويقول الكاتب: الأخطر من ذلك تحدث بيني موريس بصراحة عن إمكانية ((الترانسفير)) أي طرد الفلسطينيين الذين نجحوا في البقاء في وطنهم عام ١٩٤٨…
لفت الكاتب في هذا الفصل أيضاً إلى الخلافات بين “زعامات” شمال فلسطين وزعامات جنوب فلسطين المتمثلة بعائلة الحسيني وأتباعهم الذين اصطدموا بالعائلات الأخرى في القدس وجنوب فلسطين مثل عائلة
الشيء المؤسف حقاً هو أنه بينما تتحرك القوى الصهيونية بأقدام تعرف طريقها بناء على خطط واضحة تهدف إلى تحقيق أغراض محددة، فإن العرب لم يفعلوا شيئاً سوى الخلافات العميقة، والتناحرات المتزايدة والانشقاقات السائدة.
والكل يعرف ذلك تماماً … بل ويضعون أيديهم على أصل الداء، ويقرأون (ولا تفرقوا…) لأن الفرقة أحب ما يريده أعداؤهم منهم.
(ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
فإذا ما رأيت الفرقة والتنازع والتنابذ ترى طواغيت الأرض الذين كانوا أداة تفريق في الماضي، وافتتنوا بما فتحه عليهم العدو من ثغر هنا وهناك، ليشغلهم بالجزئيات عن الكليات وليجعل بأسهم بينهم. ولا يجد منهم إلاّ الأمن والعافية، والأعين الغافية. فاستعان الأعداء بهم على شعوبهم، واكتسبوا من ضعفهم قوة، ومن جهلهم قوة، ومن تخاذلهم قوة، ومن غفلتهم قوة، ومن استخذائهم قوة، وأصبحت هذه القوات كلها ظهيراً للأعداء على الأمة.
***
فيما عدا قضية الهنود الحمر، لا أجد لقضية فلسطين شبهاً بالتاريخ. سكن العرب فلسطين منذ أكثر من أربعين قرناً حين لم يكون لليهود أي وجود فيها. وأول من بشر بالتوحيد هو النبي الذي لم يكن يهودياً، بل كان حنيفاً مسلماً. وفي سنة ٥٨٦ قبل الميلاد أخذ اليهود يكتبون تاريخهم فادعوا أن إبراهيم كان يهودياً. لم يكن لليهود قبل القرن الثاني عشر قبل الميلاد أي وجود في فلسطين. حتى كلمة “إسرائيل” هي كلمة كنعانية وليست يهودية. العرب مظلومون والظلم واضح. العربي من أشد الناس حساً بالعدالة. كان هذا في أيام الجاهلية، وجاء الإسلام فعزز هذه الخصلة في نفوس الناس: “وزنوا بالقسطاس المستقيم… إن الله يعلم السر وأخفى”، أي أنه يعلم ما هو أخفى من السر. وعلى هذا الأساس، فالعربي يجد أنه محاسب على سكوته على الظلم.
وإلياس نصرالله شعر بالظلم الواقع على الفلسطينيين، وبالخطر الماحق الذي يستهدف الأمة العربية كلها… فقدم عرضاً – كما قال البروفيسور قيس فرو – “يمتزج فيه الماضي بالحاضر والمستقبل، مكوّناً زمناً فلسطينياً واحداً. فبالتذكر المتيقظ صور إلياس جوانب من ماضي فلسطينيي الداخل والشتات، وبالانتباه ألقى الضوء على مأساتهم المستمرة، وبالتوقع استشف مستقبلاً فلسطينياً محفوفاً بالمخاطر.”
وخير ما أختم بهذه الأسطر القول بأن هذا الكتاب إنما هو سيرة كاتب ومؤرخ فلسطيني، سيرة هي مدرسة حقيقية، قمين بكل من يريد تجويد سيرته الاحتذاء بها، والسير في دروبها، فهي من السّير السامقة المعبرة، وهي من أغنى السّير وأسماها.