أن تحملَ الحقيبة وتراودَ المستحيل
د. موسى برهومة
26-01-2009 04:42 AM
يعبرون الموت ويتحدون الدمار وينتسبون إلى الحياة. هكذا أقبل الفتية الغزيون على الانخراط في نشيد الكرامة ورتلوا رسالة العلم في صفوف ملأتها الطائرات البربرية بالدخان والسواد ورائحة الجثث. الفتية بأصابعهم غير المرتجفة كتبوا ملحمة الشعب الذي لا يقهر، وهزئوا بالجيش الذي لا يقهر، كما هزئوا بالموت رغم الجراح النازفة من حولهم.
الرسالة كانت أبلغ مما يتصور العابرون: أن تحمل الحقيبة، وتراود المستحيل، وأن تصحبك في طريقك إلى المدرسة/الخيمة، البناياتُ المدمرة وعويل الثكالى وصوت الدم الذي يئن، ثم لا تتردد في الهتاف "بلاد العرب أوطاني، من الشام لبغدان، ومن نجدٍ إلى يمنٍ، إلى مصرَ فتطوان". هذا الهتاف الأبدي لن يذبل، لأن بلاد العرب سيَّجت فلسطين في الحرب الأخيرة بالحب والوفاء، كما فعل كل أحرار العالم الذين أضحت فلسطين هويتهم النضالية وبصمة أرواحهم التواقة للعدالة والحق.
أتحدث عن فلسطين القضية التي وحّدت شوارع العالم حول رايتها، حول علمها، وحول خطابها التحرري الذي صاغه الشهداء والأبطال والشعراء والأنبياء، ولا أتحدث عن الخطاب الفصائلي الذي شرذم الروح وأصاب القلب بالإعياء، ونزع عن الأفكار العظيمة جلالها وجمالها. هذا الخطاب لطالما أثار سأمي وألقى بي في مهاوي الإحباط، لأن فلسطين تستحق أكثر من هذا الاقتتال المنبري على الفضائيات، ويستحق دم الشهداء الذي لم يجفّ بعد أن يكون "الإخوة الأعداء" أكثر تساميا وتسامحا، وأكثر نبلا كي يكونوا جديرين بأكاليل المجد التي طوقت كفاحهم بها الشعوبُ في كل مكان.
لكنّ "الإخوة الأعداء" لا يصغون إلى تلك النداءات، ومن السهل أن يجيّروها لخدمة نزعاتهم الفصائلية والانفصالية، لأن فلسطين في نظرهم هي التنظيم والحزب والراية المهترئة، وليس الأرض والشعب والإنسان والتاريخ الذي صاغه الأجداد منذ فجر البشرية حتى شمس أمس الغاربة التي ظللت فتية حي الزيتون وهم يرسمون البحر على دفاتر الأونروا التي أحرقتها الطائرات.
يرسمون البحر، ويحلمون بجغرافيا وطنية أوسع من مضيق، أو من شريط حدودي تحرسه البارجات الأطلسية.
فتية غزة الذين علقوا فوق دروج صفوفهم أسماء زملائهم الشهداء، فعلوا ذلك لا لتلتقط الكاميرا صورة تذكارية للموت، بل لكي يعلّموا الدنيا أن إسرائيل خطفت الهواء ومزقت السماء ونكّلت بالمدنيين، وتفننت في قتلهم وتشويههم وشويهم بنار القنابل الفسفورية، لكنها لم تستطع ولن تستطيع أن تنتزع الأمل من نفوس هؤلاء الفتية الطالعين من جحيم الموت إلى تلة سامقة على كتف الحياة.
هل يدرك أمراء الحرب هذه الحكمة؟ أم أنهم مشغولون بسنّ حناجرهم للاقتتال التلفزيوني المقبل، وانتظار "غنائم" مساعدات الإعمار التي ستشعل حروب الطوائف في أيامنا القادمات؟ ولسوف يسيل دم، ويمتلئ القلب بالهذيان. هذه ليست نبوءة عرّافة مأفونة، بل قراءة لمشهد فلسطيني مغرق في سوداويته وكابوسيته.
ألهذا اليوم الموعود ذهب الشهداء إلى حتفهم باسِمين، وقطعت أرجل الصبايا الصغيرات، وصبت العتمة قارها المغلي في عيني الفتى لؤي صبح وخطفت منهما بارقة النور؟
ألهذا اليوم الموعود، ذرفت أمهاتنا دموعا أحرقت المحاجر والجفون؟
ألهذا اليوم صارت نساء غزة أرامل أو ثكالى أو مقطوعات من شجرة؟
سأوقف الاسترسال في مثل هذه الأسئلة المدمرة، لأن القلب المدمى لم يعد يحتمل كل هذا العدوان النفسي. وسوف أعود إلى درج الطالب الغائب عن صفه، لأنه ذهب مع الشهداء إلى النوم. ولسوف أستذكر خربشاته فوق كتاب الجغرافيا الممزق، وأرتب أحلامه على كتاب اللغة العربية وأرسم البحر وزورقا يطل من بعيدِ الأبيض المتوسط. وسأنتظر أنا وصديقي الغائب ذلك الزورق، ولو بعد ألف عام!
m.barhouma@alghad.jo
** الزميل الكاتب رئيس تحرير يومية الغد