لم تحظ حركة "حماس" بتعاطف الاردنيين على تنوعهم واختلافهم, مثلما حصلت عليه, اثناء الحرب الاسرائيلية على القضية الفلسطينية في محطة غزة. وقد اظهر الشرق اردنيون تحديدا تعاطفا لافتا, يمكن الاستدلال عليه من تغطية الصحافة المحلية لردود الفعل الشعبية ومقالات الكتاب والحوارات مع النواب والسياسيين وحتى المواطنين العاديين.
هذا التحول اللافت في المزاج الشعبي الاردني, ليس مرده فقط الاعجاب بالصمود الذي تحقق في غزة ومثلت حركة "حماس" عنوانا له. بل ايضا, لما يختزنه الوجدان الشعبي الاردني من تقدير لموقف "حماس" من مؤامرة الوطن البديل.
قبل الحرب الدموية على غزة, فتحت الدولة الاردنية, كوة صغيرة مع "حماس", لتبادل الهمس والهواجس والتحليل, لمرحلة ما بعد فشل حل الدولتين,على افتراض ان "حماس" ترفض الحلول التصفوية للقضية الفلسطينية بما في ذلك الحاق ما تبقى من جزر سكانية في الضفة الغربية مع الاردن او ما بات يسمى بالوطن البديل.
لكن العلاقة ظلت في المربع الأمني, ولم يكن ممكنا ان تتطور اكثر بسبب التوازنات الاقليمية والدولية من جهة, وصعوبة بناء علاقات سياسية تشاركية استراتيجية من جهة اخرى. فخيارات "حماس" السياسية معقدة ومضطربة فهي اكثر من كونها فصيلا فلسطينيا وشبكة علاقاتها شائكة, وهي تريد العلاقة مع الاردن لحسابات سياسية برغماتية.
المزاج الشعبي الاردني الذي يتغذى على الخطاب الرسمي للدولة, استقبل بارتياح الانفتاح الرسمي على حركة "حماس" كقوة فلسطينية صاعدة, فازت في الانتخابات وتحكم في غزة. فالعقل السياسي الباطني للاردنيين شديد الحساسية ازاء الهوية والسيادة الوطنية للدولة الاردنية. ولديه مجسات سياسية حساسة جدا تستشعر منابع الخطر.
يحدث هذا والاردني يراقب اداء السلطة الوطنية السياسي والترهل الذي اصاب عمودها الفقري (حركة فتح) والتناحر الحاصل بين زعاماتها التي فقدت الكثير من شعبيتها ورصيدها النضالي التاريخي, بسبب حالة الاسترخاء والبحث عن الامتيازات والتشبث بالالقاب والمواقع بالرغم من كل الاخطار المحدقة, وما يزال الجيل الثاني في "الحركة" ضعيفا.
اما اليوم وبعد وقف العدوان المدمر على غزة, ومع بدء الحديث والصراع على "مرحلة ما بعد الحرب في غزة" هذه المرحلة التي حذر منها جلالة الملك, لافتا النظر الى ما يخبأ للقضية الفلسطينية من اخطار، فقد تكشف للعلن خطر داهم بدأ يطل برأسه ويهدد القضية الفلسطينية برمتها, وهو خطر سلخ قطاع غزة مع "حماسه" عن الضفة الغربية والقضية الفلسطينية عموما.
نجاح اسرائيلي في تحقيق هذا الهدف (الفصل) يعني القضاء على حل الدولتين الذي يضمن اقامة دولة فلسطينية موحدة عاصمتها القدس, ويفتح بوابة شر الى ما بات يعرف بحل الثلاث الدول (اسرائيل, مصر, الاردن) , بحيث يصبح كيان غزة المسخ بغض النظر عن لون الراية التي يرفعها تحت الوصاية المصرية بمظلة دولية معقدة, وسيجري العمل لاحقا على ايجاد "دولة" مسخ اخرى مهلهلة تضم جزرا سكانية, ترفع العلم الفلسطيني, ثم تنزله بدعوى الوحدة مع الاردن (كونفدرالية, فدرالية) انه الوطن البديل بعينه.
ما يصدمنا ويثير دهشتنا, ومعنا كل الاردنيين (باستثناء الطائفة السياسية الناجية) السلوك السياسي لحركة "حماس" هذه الايام، فهاجس الاعتراف بشرعية كيانها السلطوي في غزة, بات يتحكم في كل مفاصل سلوكها السياسي, قبل واثناء وبعد "المحرقة". هروب من الحوار والوحدة الوطنية, اصرار عجيب على موطئ قدم على معبر رفح, مهما كان الثمن, واخيرا, ليحل الخراب والدمار الى الابد في غزة ولينزف الجرح الغزي قيحا وصديدا, فلا إعمار ولا تضميد الا من بوابة حكومتها العتيدة التي لا يعرف احد اين تذهب بلايين الدولارات التي تصلها وكيف واين تصرف?
استهتار ما بعده استهتار في مصير القضية الفلسطينية برمتها. فقد تقزمت القضية بحجم المعبر او غزة اما بقية الاراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشريف, فلا ذكر لها لا في التهدئة ولا بوقف النار ولا بوقف الاستيطان.
اذا لم يكن ما يجري سكرة نصر موهوم على اسرائيل ودول مجلس الامن والاتحاد الاوروبي ودول الاعتدال وخاصة مصر, وطبعا على سلطة رام الله المتواطئة التي شكلت "خلية عمل" للتجسس على قيادة "حماس" وكشفها للعدو, فقيادة "حماس" عصية على الاختراق الامني الاسرائيلي(!!).
اذا لم يكن هذا السلوك المدمر لقيادة "حماس" ناتجا عن اوهام ومبالغات في القوى الذاتية, مضافا لها سيف قطر "البتار" فان حماس باتت مندفعة نحو بناء كيان فوق وطني (إمارة) وهذا انحراف خطير ومدمر للقضية الفلسطينية ويلحق افدح الضرر بالمصالح الوطنية الاردنية, لانه يفتح باب الشر لحل الثلاث دول المشؤوم.
ان المصلحة الوطنية الاردنية العليا, تقتضي التصدي للاطماع والنزوات الانقسامية والعمل على وحدة الصف الفلسطيني منعا للانحراف او للاستسلام.
وحدة فلسطين على اساس برنامج الاجماع الوطني الذي وقعته "فتح" و "حماس" وبقية الفصائل, هي المخرج ومن يضع شروطا اضافية يضمر شرا ويجب ان لا يكافأ.
b.haddadin@hotmail.com