اتصالات اوباما, وقبلها تأكيدات هيلاري ابعدت خيار الحل الفلسطيني على حساب الاردن, حسب القراءة الرسمية.
شحذ الرئيس الأمريكي باراك أوباما همم حلفائه العرب ورفع معنوياتهم في المعركة الدبلوماسية للسلام عبر سلسلة خطوات سريعة شبه متوازنة لتعزيز وقف إطلاق النار في غزة ومناقشة سبل إحياء المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية, أساس الأمن والاستقرار في الإقليم.
بعد ساعات على دخوله البيت الأبيض, اتصل أوباما بالملك عبد الله الثاني, الرئيس المصري حسني مبارك ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس المنتهية ولايته الدستورية. بعدها بأيام تكلّم مع العاهل السعودي الملك عبد الله, وأمس السبت أعلن عن أن جورج ميتشل سيبدأ جولة في المنطقة غدا الاثنين حتى قبل أن يشرع في تشكيل فريق عمله.
اتصالات أوباما المعلنة, التي استثنت الرئيس السوري بشار الأسد - عنوان محور الممانعة مع أن دمشق تلعب دورا محوريا في عملية السلام- ساهمت في تكريس شرعية الرئيس عباس. كذلك شدّت ظهر محور الاعتدال بعد نجاح قمة الكويت الاقتصادية في ترحيل الملفات العربية المتفجرة إلى قمّة الدوحة العادية, على وقع مصالحة صورية أمام عدسات المصورين.
الحراك الأخير نشل "دول الاعتدال العربي" من أجواء خيبة أمل نشأت حين أغفل أوباما الإشارة إلى إسرائيل وصراع الشرق الأوسط في خطاب التنصيب يوم الثلاثاء. كما أنه لم يتوقف عند مجزرة غزة التي دفعت الشارع العربي للانحياز إلى خطاب المقاومة والسلاح بدل خيار السلام.
تفاءل محور الاعتدال أكثر مع تعيين المفاوض المخضرم ميتشل, مبعوثا إلى الشرق الأوسط, وهو الذي نجح في تسهيل اتفاق السلام في إيرلندا خلال عهد بيل كلينتون الديمقراطي. ميتشل سبق وأن قدّم أوسع وثيقة وأشملها لحل الدولتين عام 2001 عندما عين مبعوثا خاصّا لكلينتون عقب اندلاع الانتفاضة الثانية. مع أن وثيقته بقيت حبرا على ورق إلا أن تقريره قوبل بانتقادات إسرائيلية حادّة لما فيه من توصيات تتحدث عن وقف الاستيطان ومعاودة التفاوض لتأكيد الاتفاقات الموقعة والتفاهمات المشتركة.
اتصالات أوباما, وقبلها تأكيدات وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون على ضرورة "تحقيق السلام في الشرق الأوسط في أقرب وقت ممكن" أعادت الكرة إلى ملعب عواصم الاعتدال وأبعدت خيار الحل الفلسطيني على حساب الأردن, على الأقل بحسب القراءة الرسمية.
الملك عبد الله الثاني يستعد لتكريس ذلك خلال زيارة مجدولة لواشنطن الشهر المقبل ليصبح أول زعيم عربي يقابل أوباما, الذي تحدّث عن دور مصر المحوري في صنع السلام فيما حصر دور الأردن في تدريب القوات الفلسطينية.
ويظلّ الأمل معقودا بأن يدلي أوباما بمواقف أكثر وضوحا لجهة حل الدولتين للتأثير في مجريات الانتخابات الإسرائيلية يوم 10 شباط المقبل, إذ تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة بأن "محرقة غزة" لم تحسّن من فرص فوز حزب كاديما الحاكم. بل جاء العدوان لمصلحة حزب "الليكود" بزعامة بنيامين نتنياهو وسط احتفالات حماس والشارع العربي بـ "الصمود والانتصار".
لكن سلسلة المعطيات الجديدة التي خلقها أوباما لا تعفي صانع القرار الأردني من الإجابة على تساؤلات عميقة تشغل بال ألوان الطيف السياسي كافة ورجل الشارع على حد سواء.
مستويات القلق الداخلي تتنامى بسبب التداعيات المتلاحقة على الساحة الفلسطينية, التي كرست حالة انقسام سياسي وجغرافي بين حماس وفتح بينما يطل شبح "الوطن البديل" برأسه من جديد.
وهناك شعور بأن الأردن الرسمي لا يستطيع التراجع أو التقدم إلى الأمام بدون أن يؤثر ذلك على نسيج الوحدة الوطنية المنقسم, ويوسع حالة عدم الانسجام بين الموقفين الشعبي والرسمي- التي تعمقت مع قرار الأردن الامتناع عن حضور تجمع الدوحة قبل عشرة أيام.
ما يجري من انهيارات منذ إزاحة نظام صدام حسين لا يصب في مصلحة محور الاعتدال. إذ باتت إيران (الشيعية) وإسرائيل تتحكمان بالملفات السياسية بينما تركيا (العثمانية) تنافس السعودية ومصر على الزعامة السنية. لعبة الكراسي الموسيقية تتسارع بطريقة لم يعد الأردن معها قادرا على البقاء خارجها عبر تنويع مروحة خياراته السياسية وتصليب المصلحة الوطنية العليا من خلال استمالة موقف شعبي داعم.
فهناك وجهة نظر متماسكة يعبر عنها ساسة متنفذون وحزبيون ترى بأن الأردن تكلفة الاستمرار في محور الاعتدال فاقدا للمصداقية والشرعية رغم جهد أوباما. عبّاس لم يستطع المشاركة في قمة الدوحة خوفا على حياته الشخصية والسياسية وفق التفسير القطري المعلن, مع أن سياسيين عربا يرون أن عباس "مات سياسيا". أمريكا وإسرائيل توصلتا إلى تفاهمات أمنية لتطويق حماس في مرحلة ما بعد غزة مع إهمال سيادي وسياسي مقصود لمصر. أما قطر فسعت إلى كسر الدورين السعودي والمصري عبر رفع شعارات مزايدة يصعب على القاهرة والرياض التعاطي معها.
هذا المشهد المفتوح على الاحتمالات كافة يتطلب إعادة النظر في أولويات كيفية التعامل مع ما بعد مرحلة غزة ومع إدارة أوباما التي تستعد المعارضة اليسارية والإسلامية في الأردن لاستغلال نواياها المعلنة تجاه دمقرطة العالم العربي لتعزيز حضورها السياسي بطريقة انتقائية من دون الذهاب إلى مربع المفاوضات السلمية.
يقع في الخطأ من يعتقد أن طريق أوباما في الشرق الاوسط ستكون سالكة في جميع الاتجاهات لأن الإدارة الجديدة مضطرة للانفتاح على سورية وإيران إذا أرادت إحداث نقلة نوعية في استقرار المنطقة والخروج من العراق بأقل تكلفة ممكنة.
سورية قد تتعاون مع أمريكا لكبح الإرهاب الذي يتسلل عبر حدودها صوب العراق, لكنها لن تغامر بفقدان ورقتي حماس وحزب الله قبل تحقيق متطلبات أمنها القومي والوطني في اتفاق سلام يعيد حقوقها في الجولان من دون نقصان.
بعد ذلك يبرز سؤال حول المشروع الوطني الفلسطيني التائه بين حماس الإسلامية التي تسيطر على غزة وتبدو الطرف الأقوى بسبب نفوذ إيران وسورية, وحركة فتح العلمانية التي تسيطر على الضفة الغربية والمنخرطة في مفاوضات عقيمة مع إسرائيل منذ عام .1991 إيران تزداد قوة ونفوذا في العراق, سورية, غزة, لبنان (حزب الله), وعبر المكونات الشيعية في دول الخليج وأخيرا حضورها قمة الدوحة.
من جهتها ستعمل إسرائيل بلا توقف على تعطيل البرنامج النووي الإيراني وفرض تسوية على الفلسطينيين وفقا لمصالحها الاستراتيجية. لكن من المستبعد أن يدعم أوباما أي ضربة عسكرية إسرائيلية لإحباط قدرات طهران النووية, بينما القوة العسكرية الإسرائيلية لوحدها غير كافية لهكذا مهمة.
ذلك سيعطي طهران فرصة لالتقاط الأنفاس واستمرار الابتزاز لشهور.
السياسة الاردنية تسير على حبل مشدود. ويعرف الاردن أكثر من غيره بأن ضرورات تحالفاته الخارجية غالبا ما تأتي على حساب شعبية الحكم, والعكس صحيح. وهناك تحليلات غربية مستمرة تربط قيام الأردن بدوره كدولة عازلة واسفنجة لامتصاص تداعيات السياسات الإسرائيلية بخاصة فيما يتعلق بملف اللاجئين. من دون أن ننسى التجربة المريرة للأردن الرسمي مع كل من مصر والسعودية والسلطة الفلسطينية خلال العامين الماضيين ضمن محور الاعتدال. إذ تعرض لضغوط من أجل حصر دعمه بالرئيس عباس وسلطته وخيار السلام, ومنع من الاتصال مع حماس, بحسب مسؤولين. لكن الأطراف الأخرى كانت في حل من ذلك وتحركت لحماية مصالحها. عباس زار دمشق بعد أن قام الملك السعودي بعقد "صلحة مكّة" بين حماس وفتح. ومن جانبها أسهمت مصر في عقد تهدئة مؤقتة بين حماس وإسرائيل, وفي محاولة رص الوحدة الفلسطينية. وعندما حاول الأردن توسيع سلة خياراته الدبلوماسية قبل شهورـ عبر الانفتاح على حماس, تلقّى رفضا من إسرائيل ومصر والسعودية وسلطة عباس.
باختصار, لم يتم التعامل مع الأردن كشريك متكافئ على قدم المساواة. بل مورست عليه ضغوط لثنيه عن المشاركة في قمة دمشق 2008 انتهت إلى تخفيض مستوى التمثيل بما يتلاءم مع موقف السعودية ومصر, قبل أن يستبعد خيار مشاركته في قمة الدوحة للأسباب ذاتها.
معطوفا على ذلك الخبرة السياسية والدبلوماسية التي اكتسبها الأردن في تعاطيه مع جهد السلام, إذ أن ما هو مقبول إسرائيليا ليس مقبولا فلسطينيا وأمريكا لم تمارس أي ضغوط لتغيير قواعد اللعبة.
السؤال المطروح الآن بعد تغيير الكراسي في واشنطن وتل أبيب: هل يستطيع الأردن الخروج من محور الاعتدال واللعب لوحده من دون امتلاك قوة عسكرية أو اقتصادية أو سياسية تدعمه? بالتأكيد لا.
لكن عليه الاستمرار في محاولة مسك العصا من النصف والابتعاد عن سياسة الاصطفاف, وإدامة الحوار مع حماس, وتقوية القاعدة السياسية والشعبية للحكومة من خلال تعديل وزاري ذي مضمون سياسي, وربما التفكير في حل مجلس الأمّة وإجراء انتخابات تشريعية ضمن عملية إصلاح مبرمجة.
السنوات السابقة علمتنا أن الخطر يتفاقم عندما ترتخي الجبهة الداخلية وترتبك السياسات في وجه الضغوط الخارجية. من مصلحة الدولة الأردنية أن تحاور الجميع, داخليا وخارجيا. فالحكومات المتعاقبة فقدت الكثير من أدوات التأثير, وصارت أقرب لوضع من يقود سيارته من دون كوابح على طريق غير واضحة المعالم.0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net