حين قال سقراط اعرف نفسك اولا، كان غريبا في عقر مدينته وداره، ومن المعروف انه تجرع كأس السم راضيا ولم يأسف على ما تبقى له من العمر، لكن معرفة الذات ليست ميسورة للناس جميعا، وعدد من يجهلون انفسهم اضعاف عدد من يعرفونها، لهذا وجدت الاوهام متسعا في الخيال البشري واصيب البعض بنوع من السرطان لم يرد في معاجم الطب وهو سرطان الذات او تورّمها، وهذا ما تنبه اليه المتنبي بحصافته حين فرق بين الشحم والورم.
ان معرفة الذات لا بد ان تُفضي الى وعي الاخر، بكل اختلافاته ومن ثم قبوله كما هو، وبعد هزيمة حزيران رفع شعار اعرف عدوك وكان من اوائل من اطلقوه المؤرخ السوري الراحل د . شاكر مصطفى، لكن العرب اصروا على الاستمرار في جهل عدوهم لسبب بسيط وهو إصرارهم على جهل انفسهم وامكاناتهم لهذا يفاجأون بعدوهم يأتيهم من الشرق وهم ينتظرونه كالبرابرة تحت الاسوار في الشمال!
وحكاية البرابرة لمن لا يتذكرها كما عبر عنها الشاعر كفافي تتلخص في ان قوما لم يجدوا لديهم في حياتهم ما يفعلونه واوشك الضجر والفراغ ان يهلكهم، لهذا كانوا يذهبون منذ الفجر الى مداخل مدينتهم ويجلسون تحت اسوارها انتظارا للغزاة، لكن الغزاة خيبوا امالهم ولم يأتوا!
ان معرفة الذات تعني معرفة قدرها ومقامها بعيدا عن الاوهام، لهذا استحق في ديننا الرحمة من عرف قدر نفسه، وحين يتحالف جهل الذات مع جهل الآخر سواء كان عدوا او حليفا فإن الكارثة تكتمل، وتنسدّ الافاق كلها، ويصبح البقر كله اسود في الليل كما يقول هيجل، والليل الذي يقصده هذا الفيلسوف هو ليل العميان الذين يرون حتى الشمس سوداء في عزّ الظهيرة.
ان الجهل بالاخر هو سبب البلايا كلها، خصوصا حين يكون التجاهل استخفافا او حماقة على طريقة النعامة التي تغرز رأسها في الرمل تاركة جسدها كله هدفا للسهام كالغربال!!
الدستور