دلدار فلمز يرسم يوميات الألم السوري
24-09-2017 11:47 AM
عمون- دأب الفنان التشكيلي والشاعر السوري دلدار فلمز منذ عام 2010 على الاشتغال بمشروعه التشكيلي الأحدث بعنوان «كل يوم لوحة»، والذي يحمل ملامح، وأفكاراً وهذيانات ذاتية تحاكي تفاصيل الحياة اليومية عبر مخيلة خاصة. تصوغ خطوط الفنان في مقترح نوعي يقارب بين السوريالية والتعبيرية ما يذكرنا بهذيانات خوان ميرو وتعبيراته، محاولاً من خلالها تكوين «حالة حلم» هارب، أو فكرةً لا تخلو من غربة، تجعل المتلقي يشعر بأنه أمام مقولات شعرية بقالب لوني.
كان الفنان غارقاً في الأبيض والأسود، عندما بدأت محاولاته اليومية الأولى في «تدوين» صوته، وكانت اللحظات الأولى منها طفولية وقلقة. اختار اللون الأسود وتدرجاته في تناغم مع بياض أرضية اللوحة، ذاهباً نحو القساوة في النظر إلى محيطه، ليصطاد شكلاً أو وجهاً أو «كولاجاً» من بين الأشياء والكائنات، ليعيده إلى الحقيقة المفترضة، والتي تبدو ماثلة له. فمثلاً بدت الوردة الهادئة في قمة غضبها وهي تثقب نهداً لامرأة ضاعت ملامحها، تاركة أسئلة الصراخ مكتومة كأن الرسام أراد القول: «لماذا أبسط الأشياء يمكن أن يكون قاتلاً؟».
ثم ما لبث الفنان بعد فترة وجيزة، وبعد شعوره بإغناء الأسود أن أدخل اللون الأحمر بكل صخبه وحرارته، فأصبح شريكاً قوياً للمســـاحات السود فتنفس الأبيض، من حيث التأثير في مضمون اللوحات وطبعها بهوية خاصة. معـــظم ما قــدمه فلمز في تلك الفترة من يوميات، ما هو إلا أجزاء من أشخاص، أو هي تكاد تكون شخوصاً خارجة للتو من معركة تجريدية حافظت على جغرافيتها مع قليل من النزيف الذي تحول لاحقاً إلى اللون الأحمر القاني الذي لا يفسد امتداده إلا بعض التعرجات الآتية من قطع القماش الإضافية فوق جسد اللوحة. هكذا، نجد الأجســـاد في شكلها المستطيل وهي تقترب من مرحلة الاندماج، بينما أطرافها معدومة وأعناقها تطل على جحيم ما، وســـيل من الفوضى في الأســـفل كان يتضمن، ربما، تلك الأيادي والأقدام المفقودة.
ولا أدري ما إذا كانت هذه المرحلة هي نبوءة الفنان لآتٍ قريب سيحل في وطنه سورية لتكون هذه الشخوص التي سبق رسمها هي صورة هذا الآتي الجديد إلى واقع درامي في صراع دموي. شكلت هذه الشخوص مدخلاً إلى مشروعه الأحدث، والذي لا يزال يعمل عليه وفق المنطق القديم ذاته ولكن هذه المرة بعنوان «الألم الشمال السوري»، والذي تحول سريعاً إلى «الألم السوري». هذا العنوان الذي اختاره منذ فترة لرسم يومياته اللونية، والتي كان يظن الفنان أنه يخفي فيها الألم، لكنها تجلّت الآن مع تزايد الجراح التي تطفو على أعماله الأخيرة، حيث يطل الفنان بنوافذه الأكثر خصوصية من قبل، لينشرها عبر الإنترنت. تلك التجربة التي يبدو عليها الاعتناء الدقيق بالتفاصيل مع رشاقة شعرية ترمي ألوانها وموسيقاها وتمضي. لكنها هذه المرة آتية من شمال الكرة الأرضية حيث يعيش في زيوريخ - سويسرا إلى ذاكرة الحسكة - سورية، حيث كانت طفولته هناك، بدايات ألوانه وحيث كتب قصائده.
عن هذه التجربة يقول دلدار: «في لوحاتي الأخيرة التي رسمتها بعنوان «الألم السوري»، أترفع عن التفاصيل الصغيرة في أعمالي من أجل تجسيد تدفقات حسية، وذلك من خلال حركة اليدين ضمن مسارات حدسية أجسد بحركتها مكامن أعماقي النفسية التي أتلمسها على هيئة تكوينات لونية متحررة من سطوة العقل ورصانته.
في تجربتي الأخيرة ألبي نداء رغباتي النفسية وأشتغل تحت سيطرتها في وضع الألوان التي لا تخلو من بعض الانفعالية المتوترة والمصحوبة بمقامات لونية عدة، وبحث عن إشارات تفتح البوابات على معنى وجود الإنسان ومدى علاقته وارتباطه بالمكان الذي ولد فيه «الوطن»، بالتالي أعتمد على حدسي الداخلي في ما أريد طرحه من الأسئلة والقضايا».
ولو أخذنا مثلاً واضحاً عن هذه التجربة في لوحته المؤرخة بتاريخ 5/1/2017، والتي تظهر عبارة بالكاد تقرأ «مروا من هنا»، نسأل: من هؤلاء الذين مروا يا ترى؟ ولماذا تظهر تلك العبارة عبر نافذة على هيئة جسد جنين، لم يكن لديه الوقت الكافي ليغمض عينيه قبل أن يموت؟ ومثل هذه اللوحة، ثمة عشرات الأعمال المتنوعة التي يقدمها الفنان في القراءة التشكيلية للواقع الأليم حيناً، ولإشارات التأمل والأمل حيناً آخر. فهذه المجموعة من الأعمال تمثل كتاباً لونياً لذاكرة شخصية مرتبطة بالهم العام، حروفه الأولى كانت أحلاماً صغيرة ليحط بها الرحال في «الألم السوري»، ومع ارتفاع الصرخات تحاول الألوان مجاراة الأحلام الآخذة بالنمو والتفجر والهروب بها نحو أمل مرتقب. (الحياة)