لكم ما شئتم من التسميات. ولترفعوا فوق ركامها، وسياجها، ما اردتم من رايات. وليلوّح جنودكم، فوق خيول الحديد، بشاراتِ نصرِ ذئابٍ ''مضبوعة''، كما يشتهى الخوف الإنساني، من التحديق في عيون الضحايا..!؟.
نعم، نجحتم في صناعة إعصار الغبار والخراب المخيف. فاستحالت غزّة إلى رمل، يذروه ''غضب عاصفة توراتية..''. فماذا بعد..؟ وهل تحققت وصايا أنبياء حروبكم: بأن مدينة الرمل والسراب ستجتثها الريح، من الأرض، وتنفيها من ذاكرة الإنسان؟!.
بقرتم بطن المدينة، فلملمت أحشاءها، وزحفت نحو البحر. بترتم أطرافها، فأورقت ''صبّاراً''. هرستم ما تبقى من عظامها، ولحمها، فقذفتكم بما تساقط سهواً من أحشائها. وحدها، عيون المدينة الذاهلة ظلت تحدّق. وستبقى تحدّق.
عينا مدينة، مفتوحتان وثابتتان، وسماء غائمة بالدخان. جسد مدينة مهيب، ملقى على ظهره، فوق رصيف بحر، وبركة دم. ورجال كثيرون، يجيئون من بعيد، يغمسون مناديلهم، في بركة الدم الدافئ، ليحتفظوا بها كأثر تاريخي.
أمطار هطلت بوابل توراتي. وعيون مخذولة، تلمع بالخوف والدموع، في وميض الحرائق. فكيف يمكن اعادة تركيب فتات ما جرى، في تلك الأيام المشؤومة؟ سيغمرنا الذهول، حين نحاول، من السرعة التي تتبدل فيها أقوال الرجال، شهوداً أو مراقبين، وسنتشكك فيما رأيناه، من صور ومن واقع، وستعلو أصوات رفاق اختفوا فجأة، عندما حلت الكارثة.
اما نحن، فلنا حيادنا الانتحاري، الذي سمح بوقوع الجريمة، فتثاقلت ايامنا بمزاج معكر. وارتضينا اشكال موت بطيء، تحت وطأة ربو الهزيمة. جموع تحترس من خطاها، وانفاس حشود تحاذر من صمتها الخارق. بسطاء تداهم حناجرهم عُقدُ بكاء حبيسة، فتطفر عيونهم، من القهر والعجز، دماً.
مسيرات صمت تواجه غضباً توراتياً همجياً. عنف يتلوث وجهه، كما لم يحدث من قبل، وشركاء يتضامنون، خلف باب الجريمة، بالشموع. شوارع يجري تفكيك غضبها، بنفس السرعة التي جرى فيها تركيبه.
كنا نملك الشعر، في ظروف كهذه، فصار الشعرُ مكشوفاً في العراء، بعد ان استقال طائعاً، أو أقيل، من مسؤوليته عن أحلامنا. وعثرنا، بخبث، في الأدب، على ملاذ طيب، لتناسي السياسة وأسرار التقادم. والنتيجة، تماماً كرحلة ''أوديب ملكاً''، في البحث عن قاتل أبيه. غير أننا لم ننته إلى ما انتهى اليه، في اكتشاف انه هو نفسه القاتل..!؟.
اما ناس المدينة، فلهم حطام نفوسهم، وما انفلت من احزانهم، خلسة، على هيئة غضب، فصدَّ البحر. وهم يعرفون ان كرة اللهب العظيمة تدحرجت تلقائياً، وتطايرت شظايا كتلها، في كل الاتجاهات. اما شروخ أرواحهم، وجراحاتها، فهم يدركون، بالشغف السري، كيف تدارى رعشاتها، المحزونة، حتى ترقُّ. أما ''الخسارات''، فلا رجل ولا رجال، يمكن ان يعيدوا للناس، بعد اليوم، ما خسروا..!؟.
fafieh@jpf.com.jo
الراي