تطل علينا اليوم ذكرى الهجرة النبوية - في زمن القصعة والغثاء- الذكرى التي نؤرخ بها لهذه الأمة - والتي تربطنا بجذور حضارتنا وتؤصل لهويتنا وقد تعودنا أن نكرر أنفسنا دون أن نلمس اثرا فينا ولَم تكن الهجرة عرضا في تاريخ رسول واحد، لقد تعرض لها كثير من الأنبياء. تعرض لها نوح- لوط- يونس- موسى- عيسى- يوسف- شعيب، وكان من بينهم ابو الانبياء سيدنا ابراهيم عليه السلام وهكذا تعرض لها، خاتم الانبياء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكى نضع الهجرة التي تعرض لها الأنبياء في مكانها فقد كانت لله، حتى تؤتي ثمارها، وحتى تكون مؤيدة بقوة الخالق عز وجل، ومن هنا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لابي بكر ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما) وقالها الأنبياء من قبل ( إني مهاجر الى ربي ..... ).
وعندما نعود الى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أخذ الرسول بأسباب النجاح، كانت روعة التنظيم في الوصول الى الهدف، انسجاما مع الكون المنظم، والإنسان المنظم، والعبادات المنظمة، وان الاتصال بالخالق لا يعنى التخلي عن أسباب النجاح لقد اخرجت القيادة هذا التنظيم في اروع حالاته، بقيت في بؤرة الخطر حتى امنّت رعيتها بحيث يصبح فداء القيادة طوعاً عنوان العلاقة، هؤلاء الذين صبروا على الاذى يحق للقائد أن يحوطهم برعايته، حتى يواصلوا إيصال كلمة الهداية، لتصنع حضارة الأمن والهداية، لا حضارة الخوف والإرهاب في الهجرة نستذكر معانى الحق والقوة والحرية، الحق الذى انتصر رغم العداء والقوة التي كانت سياجاً لهذا الحق ، القوة التي استعملت بميزان الحق وفى الاتجاه الصحيح، فأنتجت لنا الحرية حرية الانسان فكرا وسلوكا وتفكيرا، فكلما زادت العبودية لله زادت مساحة الحرية.
في الهجرة نستذكر قضية الزمن فكانت الفترة التي قضاها صلى الله عليه وسلم في المدينة، قبل ان يعود الى مكة ليست قليلة، ولَم يكن يتسلى أو يضيع وقته، كان يعد العدة كي يعود الى المدينة التي اخرج منها وهو درس نطرحه لكل من يريد العودة الى وطنه، هل هي عودة حاكم صاحب وطن، أم عودة محكوم يأتمر مرة أخرى بأمر من أخرجه، وهل يمكن للذئب أن يراعي الغنم.
إن مجمل المهجرين على مستوى العالم هم إما عرب أو مسلمون، يخرجون من ديارهم بالقتل والحرق والتدمير ، كرام على مأدبة لئام، اجسادنا هاجرت نساؤنا اطفالنا شيوخنا، دونما رحمة، حتى عقولنا تضطر الى الهجرة، لإنها لا تجد من يقدرها.
نستذكر في الهجرة معنى الوفاء لمن ناصر، بقاؤه صلى الله عليه وسلم في المدينة، عودته اليها بعد فتح مكة، تذكيرا لبيعة العقبة ( بل الدم الدم والهدم الهدم) فتصبح المدينة منورّة، بوجوده فيها حياً وميتاً.
في الهجرة وذكراها، نقف وقفة صادقة مع النفس، مساحة التراجع والذل والاضطهاد، مساحة الولاء للعدو ومسايرته، مساحة سلب القرار وتمكين الأجنبي فيه، أمور لا تتناسب مع هذا التاريخ وهذه الذكرى.
كان صلى الله عليه وسلم مؤمنا بالنصر عندما وعد سراقة بسواري كسرى ولكنها لم تكن أماني، إنما كانت أفعال إعداد أمة، وتهيئة نفوس وإرساء قواعد حضارة، ضعفت وهزلت، ولكننا نعتقد أنها لن تموت ولن تتلاشى لإنها مرتبطة بجذر مكتوب له البقاء.