موقف الاسلام من ملكيات أهل الكتاب
د. آمنة ابو حطب
20-09-2017 02:38 PM
سكن اليهود يثرب، وكانوا عبارة عن جاليات كبيرة العدد متعددة الفروع، انتشرت في أماكن كثيرة في الحجاز وخاصة في المدينة وما حولها، وأكبر هذه الجاليات التي سكنت المدينة: بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، وإلى جانبهما كانت توجد بطون وعشائر يهودية متفرقة ذكر أنها كانت أكثر من عشرين بطناً. وكانت خيبر مسكونة باليهود كذلك، ووادي القرى إضافة إلى فدك وتيماء ومقنا, وابتنوا الحصون والقلاع والقرى المحصنة، وسكنوا الجهات الخصبة الغنية في منطقة يثرب، فقد أقام بنو النضير بالعوالي في الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مذُينيب، وأقام بنو قريظة إلى شمالهم على وادي مهروز، أما بنو قينقاع فقد أقاموا عند منتهى جسر وادي بطحان مما يلي العالية وكان لهم هناك سوق من أسواق المدينة عرف بهم. وتعتبر خيبر من أهم مواطن اليهود عند ظهور الإسلام، وهي منطقة خصبة جداً ذات مياه جوفية وفيرة، وكانت تشتمل على سبعة حصون هي: حصن ناعم، والقموص، وحصن الشق، وحصن النطاة، وحصن السلالم، وحصن الوطيح، وحصن الكتيبة: فاستغلوا خيرات هذه الأراضي واشتغلوا بالزراعة، وكانت لهم فيها أموال، وبذا فقد شكلت خيبر ريف الحجاز كما يقول الواقدي , ولحماية أنفسهم من غزو القبائل تحالفوا مع القبائل القوية للدفاع عنهم .
وإذا استعرضنا مصادرنا الإسلامية، فإننا نلاحظ أن اليهود عملوا في الزراعة وتملكوا اراضٍ واسعة في الحجاز، كما أنهم امتهنوا الصناعة، وزاولوا الحرف اليدوية، كالصياغة والحدادة وزاولوا التجارة والصيرفة, وانطلاقاً من هذا يمكن القول أنهم سيطروا على الاقتصاد في الحجاز وأصبحوا أغنى سكان المدينة والحجاز, وبغض النظر عن الأسباب التي ذكرتها الروايات عن الحرب التي شنها الرسول "ص" ضد اليهود فان تنامي دولة الإسلام في المدينة حتَّم الصدام مع هؤلاء اليهود الذين يسيطرون على اقتصاد المنطقة.
اختلف موقف الرسول (ص) تجاه اليهود وملكياتهم طبقاً لطبيعة المواجهة التي حددها اليهود أنفسهم من حيث القتال أو عدم القتال, واجه الرسول (ص) أول ما واجه يهود بني قينقاع في 2 هـ، فحاصرهم ثم نزلوا على حكم الرسول, فحكم فيهم أن يرحلوا عن المدينة وأخذ رسول الله ما تركوا من الأسلحة ودورهم، وكـانوا تجاراً وصاغه .
أما موقف الرسول "ص" من بني النضير، فقد غزاهم الرسول (ص) في حصونهم في بداية سنة 4 هـ، وكانوا أصحاب أراضٍ وبساتين نخيل، وحاصرهم ثم نزلوا على حكم رسول الله، فأمر برحيلهم عن المدينة، ولهم ما حملت الإبل ما عدا الحلقة (السلاح) وأصبحت أراضيهم جميعها فيئاً. وبعد غزوة الخندق (الاحزاب) ، في سنة 5هـ، اتجه الرسول وصحابته لغزو بني قريظة، فحاصرهم المسلمون، وحصل قتال بين الطرفين، ثم نزلوا على الحكم وترك الرسول لسعد بن معاذ، سيد الأوس، وهو حليفهم، أن يحكم فيهم، فحكم بقتل المقاتلة وسبي النساء والذراري، وقد نفَّذ الرسول ذلك بهم، وسيطر على أموالهم وعقارتهم .
أما عن اجراءات الرسول تجاه أراضي يهود خيبر وملكياتهم ففي سنة 7 هـ غزا الرسول والمسلمين خيبر، وقد قاتل اليهود الرسول في الحصون أو في المناطق الآتية: ناعم والقموص، والشق، والنطاة، والسلالم، والوطيح وسيطر المسلمون عليها بالقوة، وفقد اليهود ملكياتهم لأراضيهم في هذه المناطق، وتحولت إلى فيء عام أو غنيمة للمسلمين، وقسمت حسب نظام الأخماس. أما حصن الكتيبة وأراضيه فقد استسلم اليهود ولم يقاتلوا فاعتبرت الأراضي التابعة له فيئاً , وقد ترك الرسول اليهود على الأراضي يعملونها للمسلمين مزارعة ولما علم سكان فدك من اليهود ما حصل بخيبر وأهلها بعثوا وفداً لرسول الله (ص) قبل مغادرته خيبر فصالحهم على أن لهم نصف أراضيهم ونخلهم ولهم النصف الآخر. وتركهم يعملون بالأرض واعتبرت نصف أراضي فدك فيئاً, وغزا رسول الله بعد فراغه من خيبر وادي القرى، وافتتح حصون اليهود عنوة بالقتال، فأصبحت اراضيهم فيئاً أو غنيمة للمسلمين المشاركين في الغزو، وأبقى اليهود على الأراضي يعملون فيها مزارعة لأصحابها المسلمين .
وهنا لا بد من الإشارة الى ملاحظتين الأولى أن الرسول (ص) تعامل مع ملكيات اليهود وعقاراتهم ضمن طبيعة الفتح لحصونهم وقراهم، من قاتل منهم فقد نزعت ملكياتهم لأراضيهم وأصبحت للمسلمين الذين شاركوا في القتال أو ملكاً أو فيئاً عاماً لهم. الثانية: أن الرسول (ص) لم يأخذ منهم الجزية أو يفرضها عليهم في هذه الفترة وذلك أن دولة الإسلام لم تكن حتى الاَن قد أَرست أركانها ولم يتم ذلك إلا بعد فتح مكة سنة 8 أو 9هـ فبعدها فرضت الزكاة (الصدقة المفروضة) على المسلمين والجزية على غير المسلمين من اليهود والنصاري والمجوس. وهنا فقد صالح أهل تيما وجلّهم من اليهود على أداء الجزية، وبذا احتفظوا بملكيتهم لأراضيه وصالح كذلك أهل مقنا وكان سكانها من اليهود أيضاً على دفع الجزية والاحتفاظ بأملاكهم. وجاء في كتاب صلحهم ما نصّه " من محمد رسول الله الى بني حبيبة وأهل مقنا: سِلْم انتم، فإنه أنزل على انكم راجعون قريتكم، فإذا جاءكم كتابكم هذا فإنكم آمنون، ولكم ذّمةَ الله وذمة رسوله. فإنّ رسول الله قد غفر لكم ذنوبكم، وإن لكم ذِمّة الله وذمة رسوله، لا ظلم عليكم ولا عَدى. وانّ رسول الله جار لكم مما منع منه نفسه. فإن لرسول الله بَزّكم وكُل رقيقٍ فيكم والكُراع والحَلَقة، إلاّ ما عفا عنه رسولُ رسول الله، أو رسولُ الله، وانّ عليكم بعد ذلك رُبع ما اخرجَتْ نخلكم ورُبع ما صآدت عُروككم، وربع ما اغتزلت نساؤكم. وانكم بَرئتم بعدُ من كل جِزية أو سُخْرةٍ، فإن سمعتم وأطعتم ، فإنّ على رسول الله أن يُكرم كريمكم، ويعفو عن مُسيئكم. أما بعد فإلى المؤمنين والمسلمين: من أطلع أهل مقنا بخير فهو خير له، ومن أطلعهم بشر فهو شرٌَ له. وان ليس عليكم أمير إلاّ من انفسكم، أو من أهل رسول الله والسلام. وهكذا أقّر رسول الله كل من يهود اليمن وعمان وهجر والبحرين على اراضيهم مقابل قبولهم الذمة ودفع الجزية لرسول الله (ص).
وانطلاقاً مما سبق نلاحظ فقدان اليهود لأراضيهم في المدينة وخيبر وفدك ووادي القرى وتحولت الى غنيمة أو فيء عام للمسلمين الذين شاركوا في فتحها. وهكذا قضت هذه الإجرءات على الإقطاع اليهودي في الحجاز ليظهر مكانَه الاقطاع الاسلامي.
عامل الرسول (ص) نصارى شبه الجزيرة العربية كما عامل اليهود بعد سنة 9 هـ. فقد أقَّرهم في قراهم ومنحهم الأمان مقابل دخولهم الذمة ودفعهم الجزية. كتب رسول الله (ص) عندما صالحه أهل نجران كتاب صلحهم. وهذا نصه" بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب محمد النبي لأهل نجران، اذ كان عليهم حكمه، في كل ثمرةٍ وفي كل صفراء وبيضاء ورقيق، فأفضل ذلك عليهم، وترك ذلك كله لهم، على الفي حُلّه من حُلَلِ الأواقي: في كل رجب ألف حُلّه، وفي كل صفر الف حُلّة، كل حُلّة أوقية من الفضة، فما زادت على الخَراج أو نَقَصتْ عن الأواقي فبالحساب. وما قضوا من دروعٍ، أو خيلٍ، أو ركاب، أو عروضٍ أخذ منهم بالحساب. وعلى نجران مؤنة رُسُلي، ومتعتهم، ما بين عشرين يوماً فما دون ذلك، ولا تحبَس رُسُلي فوق شهر. وعليه عارية ثلاثين درعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، إذا كان كيد باليمن ومعرَّة. وما هلك مما أعاروا رسلي من دروعٍ، أو خيل أو ركاب، أو عروضٍ فهو ضمين على رُسُلي، حتى يؤدوه اليهم. ولنجران وحاشيتها، جوار الله وذمة محمدٍ النبي رسول الله على أموالهم، وانفسهم وملتهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعشيرتهم، وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يُغّير أُسقُف من أسقفّيته ولا راهب من رهبانّيته ولا كاهن من كهانته. وليس عليهم رُبَّيّة، ولادم جاهلية. ولا يحشرون ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم جيشٌ. ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين. ومن أكل رِباً من ذي قبلٍ فذمتي منه بريئة. ولا يؤخَذَ رجلٌ منهم بظلم آخرَ.
وعلى ما في هذا الكتاب جوار الله وذِمّة محمد النبي رسول الله، حتى يأتي الله بأمره، ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم، غير مثقلين بظلمٍ. وفي غزوة رسول الله الى تبوك سنة 9 هـ. وجه خالد بن الوليد في سرية إلى دُومة الجندل، وكان ملكها يدعى اُكيدراً ، فصالحه على الجزية، وحفظ له ولسكان المدينة أموالهم وأراضيهم . وقدم صاحب آيله، يُحنة بن رؤبة، على الرسول، وعقد رسول الله له صلحاً, ويكمل الراوي قوله أن الرسول وضع الجزية على أهل آيلة ثلاثمائة دينار كل سنة، وكانوا ثلاثمائة رجل, وكتب رسول الله كتاب صلح لأهل أذرح اعطاهم فيه أماناً على أنفسهم وأملاكهم مقابل الجزية " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي (ص) لأهل أذرح أنهم آمنون بأمانِ الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين, يبدو واضحاً مما سبق أن الرسول (ص) أعطى أهل الذمّة من النصارى في الجزيرة العربية الامان يمارسون شعائرهم الدينية، ويحتفظون بملكياتهم مقابل دفعهم ضريبة سنوية أو ما عرف بالجزية, ويبدو أن إجراءات الرسول من أراضي المجوس وموقفه منها كانت مطابقة لمعاملة أهل الكتاب، فقد أعطاهم الأمان على أرضهم وأموالهم مقابل جزية ضُربت عليهم، فقد روي عن عمر بن الخطاب حين ذكر المجوس فقال: لا أدري كيف أصنع في أمرهم ؟! فقال عبد الرحمن ابن عوف : سمعت رسول الله (ص) يقول: سنّوا بهم سنة أهل الكتاب وبذا قال أكثر أهل العلم : إنهم ليسوا من أهل الكتاب وإنما اخذت الجزية من اليهود والنصارى بالكتاب ومن المجوس بالسن وجاء في كتاب رسول الله الى أهل هجر والبحرين وهـم في غالبيتهم مجوساً فمن شهد منكم أن لا اله الا الله وأن محمد عبده ورسوله، واستقبل قبلتنا، وأكل من ذبيحتنا فله مثل ما لنا وعليه مثل ما علينا ومن أبى فعليه الجزية ,وبالنسبة للضرائب التي فرضت على أملاك أهل الذمة فقد قرر الرسول (ص) في سنة 9 هـ أخذ الجزية منهم. واللافت للنظر أن عهود الصلح التي عقدها الرسول مع أهل الذمة لم تشر إلى أخذ ضريبة ( خراج) عن أراضيهم، بل اكتفى الرسول (ص) بفرض جزية نقدية وربما عينية فرضت غالباً على رؤوسهم, ومن المتوقع هنا أن هذه الجزية كانت بمثابة ضريبة إجمالية عن ما يملكون من أموال منقولة وغير منقولة وبذا يبدو واضحاً من كل ما سبق أن الإسلام لم يقف ضد الملكيات ووجوه تكوينها سواء بالإقطاع أو المنح أو الشراء أو الأحماء او الإحياء بل شجعها وأكد مشروعية الملكية الخاصة والملكية الجماعية كذلك سواء كانت هذه الملكيات للمسلمين أم لغيرهم من أهل الذمة.