قبسات من ذكرى الهجرة النبوية المباركة
د.أحمد خليفة
20-09-2017 02:18 PM
إنَّ في عِلمِ التَاريخِ عِبرَةً لِمَنْ يَعْتَبِر ، وَتَذكِرَةً لِمنْ يَذَّكَر ،لأَنَّهُ يُنْبِئُ عَن صُنْعِ اللهِ في القُرونِ الخَالِيةِ، وَيُظهِرُ آثارَ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ في الأُمَمِ الماضِيَةِ ، وَلِعِلمِ التَارِيخِ فَوِائِدُ دُنيَوِيةٌ وَأُخْرَوِيَّةٌ فَمن طَالَعَ أَخبَارَ الماضِينَ فَكَأَنَّهُ عَاصَرَهُم وَإِذا عَلِمَهَا فَكَأَنَّهُ حَاضَرَهُم فَإِذا وَقَفنَا عَلى سِيرِ العُظَمَاءِ وَالأَكَابِرِ وَاقتَدَينا بِهم كَانَ لنا نَفْعٌ عَظِيمٌ وَإِذا وَقَفنَا عَلى ما فِيهَا مِن سِيرَةِ أَهلِ الجَوْرِ وَالعُدوَانِ أَخذْنَا العِبَرَ وَالدُرُوسَ، هَذا مِنْ حَيثُ العُمُومُ فَكَيفَ بِنَا لَو طَالَعْنَا سِيرَةَ خَيرِ البَشَرِ وَاسْتَقَينَا مِنْ هَذِهِ السِيرَةِ العَطِرَةِ العِظَاتِ وَالعِبَرَ خُصُوصًا في مِثلِ هَذِهِ الأَيَامِ التي نَتَفَيَأُ فِيهَا ظِلالَ ذِكرَى الهِجرَةِ النَبَوِيَةِ الشَرِيفَةِ التي فَرَقَ اللهُ بِهَا بَينَ الحَقِ وَالبَاطِلِ، وَهُنَا لا بُدَّ مِنْ فَهْمِ بَعضِ الأُمُورِ المهمَّةِ وَهِيَ أَنَّ الهِجرَةَ النَّبَوِيَةَ الشَريفَةَ لَم تَكُنْ هُرُوبًا مِنَ المواجَهَةِ أَو جُبنًا عَنِ الثَبَاتِ عَلى الحَقِّ فَالهُرُوبُ وَالجُبنُ مِنَ الصِفَاتِ التي لا تَليقُ بِأَنِبياءِ اللهِ لأَنَّهُم صَفوَةُ خَلقِهِ وَقُدوَةُ النَاسِ لِذلِكَ خَصَّهُم اللهُ بِالصِدقِ وَالأَمَانَةِ وَالفَطَانَةِ وَالعِفَّةِ وَالشَجَاعَةِ وَعَصَمَهُم مِنَ الكَذِبِ وَالخِيَانَةِ وَالرَّذَالَةِ وَالسَّفَاهَةِ وَعِبَادَةِ غَيرِهِ وَعَصَمَهُم أَيضًا مِنَ اقتِرَافِ المَعَاصِي الكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ التي فيهَا خِسَّةٌ وَدَنَاءَةٌ، وَبِمَا أَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الأَنبِيَاءِ الشَّجَاعَةُ وَنَبِيُنَا مُحَمَدٌ صَلى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَم أَفضَلُ الأَنبِيَاءِ فَهُوَ أَشجَعُهُم أَيضًا ، فَلِمَاذَا كَانتِ الهِجْرَةُ مِنْ مَكَةَ إِلَى المَدِينَةِ ؟
كَانتِ الهِجرَةُ تَنفِيذًا لِأَمرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، اللهُ تَعَالى أَمَرَ نَبِيَهُ بِالهِجرَةِ لأَنَّ الأَنبِيَاءَ لا يَخرُجُونَ مِنْ أَقوَامِهم التي بُعِثُوا فِيهَا إِلا بِأَمرِ اللهِ تَعَالى، وَلَنَا في رَسُولِنَا صَلَى اللهُ عَليهِ وَسَلَمَ أُسوَةٌ حَسَنةٌ في أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ في الثَّبَاتِ عَلَى الحَقِ وَعَدَمِ التَرَاخي وَالتَرَاجُعِ عِندَمَا نَجِدُ الصَّدَ وَالإِيذَاءَ وَيَتَجَلى هَذا المَعنَى وَاضِحًا في مَوْقِفِ القَائِدِ العَظِيمِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بعدَما جَاءَ مُشركِو قُريشٍ إلى عمِّهِ أَبِي طَالِبٍ يقولونَ لَهُ يَا أَبَا طَالِبٍ مَاذَا يُريدُ ابنُ أخيكَ إِنْ كَانَ يُريدُ جَاهًا أَعْطَيْنَاهُ فَلَنْ نُمْضِيَ أمرًا إِلَّا بَعْدَ مَشُورَتَهِ، وَإِنْ كَانَ يُريدُ مَالًا جَمَعْنَا لَهُ حَتَّى يَصِيرَ أَغنانَا وَإِنْ كانَ يُريدُ الملكَ تَوَّجْنَاهُ عَلَيْنَا وَلكنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَابَ عَمَّهُ بِقَوْلِهِ: "لَوْ وَضَعُوا الشَّمسَ في يَمِينِي وَالقَمَرَ في شِمَالِي مَا تَرَكْتُ هذا الأمرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلِكَ دُونَهُ" .
وَسَطَّرَ بَعضُ الصَحَابَةِ في بَعضِ أَحدَاثِ الهِجرَةِ النَّبَوِيَةِ الشَّرِيفَةِ مَوَاقِفَ تَدُلُّ عَلَى عُمقِ مَحَّبَتِهِم للهِ وَرَسُولِهِ وَأَنَّهُم تَشَرَّبُوا الهَديَ المحَمَّدِيَ وَاتَّبَعُوا رَسُوَل اللهِ اتبَاعًا كَامِلًا وَاضِعِينَ إِرشَادِاتِ وَتَوجِيهَاتِ كِتَابِ اللِه عَزَّ وَجَلَّ نُصبَ أَعيُنِهِم ، فَلنَأخُذ أبا بَكرٍ الصِّدِيقَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مَثلًا عِندَمَا انطَلَقَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَى اللهُ عَليَهِ وَسَّلَمَ حَتَى وَصَلا غَارَ ثَوْرٍ لِيُقِيمَا فِيهِ، وَدَخَلَ الصِّدِّيقُ أبو بكرٍ قبلَ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لِيَنْظُرَ أفيهِ سَبُعٌ أَوْ حَيَّةٌ لِيَقِيَ النبِيَّ الأعظَمَ صلى الله عليه وسلم بنفسِهِ، وكانَ في الغارِ عِدَّةُ ثُقُوبٍ فَجَعَلَ الصِّدِّيقُ يَسُدُّ الثُّقوبَ بِثَوْبِهِ وَبَقِيَ ثُقْبٌ واحِدٌ فَسَدَّهُ رَضِيَ الله عنه برجلِهِ لِيَحْمِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَلَسَعَتْهُ الأَفْعَى في رِجْلِه، فَمَا حَرَّكَها وَمَا أَزَاحَها، وَبَكَى رَضِيَ اللهُ عنهُ فَنَزَلَتْ دَمْعَتُهُ الْمُبَارَكَةُ علَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم وأَيْقَظَتْهُ، فقَامَ علَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وَمَسحَ بِرِيقِهِ الطَّاهِرِ المبَارَكِ على مَكانِ اللسْعِ فَشُفِيَ أبو بَكْرٍ بِإِذْنِ اللهِ.
وَهَا هُوَ نَبِيُنَا الكَرِيمُ يُعَّلِمُ صَاحِبَهُ الصِّدِيقَ قُوَةَ التَّوَكُلِ عَلى اللهِ ، فَعِندَمَا انطَلَقَ مُشركُو قُرَيشٍ كَالوُحُوشِ الكَاسِرَةِ يَنْتَشِرُونَ في طَريقِ المدينَةِ المنَوَّرَةِ بعدَ أَنْ عَلِمُوا بِخُروجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يُفَتِّشُونَ عَنْهُ وَعَنْ صَاحِبِهِ، حَتَّى وَصَلُوا الى غَارِ ثَورٍ الَّذي حَمَى اللهُ تَعَالى نَبِيَهُ فيهِ بِخَيْطِ العَنْكبوتِ أَوْهَنِ البُيوتِ، وَجَاءَتْ حَمَامةٌ بَاضَتْ على فَمِ الغَارِ فَأَعْمَى اللهُ تعالَى أَبْصَارَ المشْرِكينَ عَنْ رُؤْيَةِ المصْطَفَى، وَسَمِعَ الرسولُ العظيمُ صلى الله عليه وسلم وصاحبُهُ أَقْدَامَ المشركينَ تخفقُ مِنْ حَولِهم، فخافَ أبو بَكْرٍ على رسولِ الله عليه الصلاة السلامُ وَصَارَ يَهْمِسُ وَيَقُولُ لَهُ: "يَا رسولَ اللهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَنْظُرُ إلَى قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنا"، فأجابَهُ النبيُّ المتَوَكِّلُ علَى خَالِقِهِ ومولاه: "يَا أبا بَكرٍ ما ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثالِثُهُمَا" أي نَاصِرُهُما معناه: ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد. فَإِنَّ التَّحَيُّزَ في الجِهَةِ والمكانِ مِنْ صِفَاتِ المخْلُوقِ أمَّا رَبُّنَا فَهُوَ مَوْجُودٌ بِلا مَكانٍ وَلا جِهَةٍ.
وَلِنَقِفْ عِندَ جُرأَةِ وَشَجَاعَةِ الفَارُوقِ عُمرَ بنِ الخَطَابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَاستِعدَادِهِ لِلمَوتِ في سَبِيلِ نُصرَةِ الحَقِّ ، خَرَجَ مُهَاجِرًا وَخَرَجَ مَعَهُ أَربَعُونَ مِنَ المستَضعَفِينَ جَمَعَهُم عُمَرُ في وَضَحِ النَهَارِ وَامتَشَقَ سَيفَهُ وَجَاءَ دَارَ النَّدوَةِ وَهُوَ مَكَانٌ تَجتَمِعُ فِيهِ قُريَشٌ عَادَةً ، فَقَالَ الفَارُوقُ لِصَنَادِيدِ قُريشٍ بِصَوتٍ جَهيرٍ: "يا معشرَ قريشٍ من أرادَ منكم أن تُفصلَ رأسُه أو تثكلَهُ أمُّهُ أو تترمَّلَ امرأتُه أو يُيَتَّمَ ولدُه أو تذهبَ نفسُه فَلْيَتْبَعْنِي وراءَ هذا الوادي فإنِّي مهاجرٌ إلى يثرب" فما تجرَّأَ أحدٌ منهم أن يحولَ دونَه ودونَ الهجرةِ.
وهُنَاكَ في المدينَةِ، هُنَاكَ في طَيْبَةَ يَنْتَظِرُ المؤمنُونَ مِنْ مُهَاجِرينَ وَأَنْصَارٍ بِلَهَفٍ وَشَوْقٍ وصولَ الحبيبِ يَوْمًا بَعْدٍ يومٍ وَيَتَوَافَدُونَ إلَى مَشَارِفِ المدينَةِ من ناحيَةِ طَرِيقِ مَكَّةَ يَفدُونَ إلى قُباء، وهو مَوضُع بِئرٍ على مَسافَةِ ثلاثة أميال من المدينة، ينتظرون قدوم رسول الله وَبَعْضُهُم يتَسَلَّقُ الأَشجارَ وَيَنْظُرُ إلَى بُعدٍ عَلَّهُ يَرَى أثرًا لِقُدومِ رَسُولِ اللهِ مُحمدٍ صلى الله عليه وسلمَ، وذاتَ يومٍ وَالنَّاسُ فِي انتظارٍ بِلَهَفٍ وَشوقٍ وَقَدِ انتصَفَ النهارُ وَاشْتَدَّ الحرُّ تَوافَدُوا جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ وإذا بِرَجُلٍ يُنَادِي بأَعْلَى صَوْتِه هَا قَدْ جَاءَ مَنْ تَنْتَظِرُونَ يا أهلَ المدينةِ وَتكرُّ الجموعُ لاستِقْبَالِ الحبيبِ المصطفى صلى الله عليه وسلم وَيَتَجَلَى مَوقِفٌ فَرِيدٌ في حُبِّ المسلِمينَ لِرَسُولهِم الكَريمِ صَلى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَمَ ، كَيفَ لا وَهُوَ الذي هَدَاهُم بِإِذنِ اللهِ لِلحَقِّ وَأَخرَجَهُم مِنَ غَيَاهِبِ الظُلمِ وَالظَلامِ وَالجَهلِ إِلى نُورِ الإِيمَانِ وَالعِلمِ وَالعَدلِ .
بِهجرَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَى اللهُ عَليهِ وَسَلَمَ إلى يَثرِبَ طَابَت بِهِ ، فَسُمِيَت طَيبة بَعدَمَا كَانَت رَدِيَّة، وَأَضَاءَ كُلُّ مَا كَانَ مِنهَا اسْوَدَّ، مُنذُ دَخَلَها، وَسَرى السُرورُ إِلى القُلوبِ بِحلُولِهِ بِهَا، وَكَانت مِن أَوبَإِ الأَرَاضِي، فَزَالَ عَنهَا وَبَاؤُهَا بِبَرَكَةِ هَذا النَبيِ العَظِيمِ، وَدَعَا اللهَ قَائِلًا: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَحَوِّل حُمَّاهَا إِلَىَ الْجُحْفَةِ. وقال: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا، وَاجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْن.
إِنَّ الهِجرَةَ النَّبَوِيةَ الشَرِيفَةَ حَدَثٌ بَارِزٌ في دَعوَةِ النَبيِّ صَلَى اللهُ عَليهِ وَسَلَمَ وَلو أَرَدنَا التَوَسُّعَ في ذِكرِ دُرُوسِ وَعِبَرِ وَفَوَائِدِ هَذا الحَدَثِ لَطَالَ الكَلامُ وَلكِنْ هِيَ وَقَفَاتٌ وَتَأَمُلاتٌ وَدَعوَةٌ إِلى أَن نَرجِعَ إِلى تَارِيخِ أُمَتِنَا المشرِقِ وَأَن نَقِفَ عِندَهُ وَنَفهَمَ أَسبَابَ القُوةِ وَالنَّصرِ وَأَن نَقتَدِيَ بِرَسُولِنَا الكَريمِ وَصَحابَتِهِ الطَاهِرِينَ في سِيرَتِهِمُ العَطِرَةِ فَإِصلاحُ المجتَمَعِ يَبدَأُ بِإِصلاحِ الفَردِ حَتى تَبلُغَ أُمَّتُنَا أَهدَافَهَا وَتُحَقِقَ آمَالَها ، نَسأَلُ اللهَ أَن يُعِيدَ هَذهِ الذِكرَى عَلى أُمَّتِنَا وَقَد تَحقَقَت آمَالُها وَعَمَّهَا الأَمنُ وَالأَمَانُ وَحُقِنَت دِمَاءُ أَبنَائِها وَكُلَّ عَامٍ وَأَنتُم بِخَير .