يعود أصل كلمة "طابور" إلى الكلمة التركية القديمة "طابقور"، ثم أسقطت القاف في حملة تحريفية قام بها الزمان مع دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس. ومعنى الكلمة في معناها الأولي: الصف من الناس يقف وراء بعضهم بعض.
وإني أكاد أجزم أن معظم لا بل غالبية المستشفيات الحكومية لا تستقبل مرضاها إلا ببسمة طابورية على طول طابور "الاستقبال"! ثم يتلقفك بالأحضان طابور "المحاسبة"، وقد يتقاطع هذان الطابوران أو يتوازيان للعلاقة الحميمة بين "المحاسبة" والاستقبال"! وفي انتظار الطبيب طابور بشكل آخر، جالس على المقاعد في صفوف متوازية في ظل صمت رهيب لا يفوقه رهبة إلا كشرة النشمي! والأمر عينه عند "الأشعة". أما طوابير "المختبرات" و"الصيدلية" و"ملحقاتهما" فهي تكاد لا تختلف عن طابور "أبو جبارة" في شارع المدينة المنورة صباح الجمعة، وطابور "كنافة حبيبة" في وسط البلد!
ولم تجد إحدى المستشفيات الجامعية الحكومية مكانا أنسب من أماكن الطوابير لموقع ماكينة تحضر قهوة بنصف دينار!
وإذا كان هناك نظرية رياضية اسمها "نظرية الطابور" عرضها في ورقة مهندس دنماركي اسمه "إيرلانج" عام 1909، تقوم على دراسة طوابير الانتظار وتحليلها، فإن الطابور بالنسبة لي معيار اقتصادي وأخلاقي واجتماعي حضاري!
من الناحية الاقتصادية، يقيس لي الطابور مدى كفاءة السياسة الضريبية الوطنية؛ فكلما كثر عدد الطوابير وازداد طول كل منها في الدوائر الرسمية الحكومية، فهذا يعني إما أن المواطن يتهرب من دفع ضريبة الدخل، أو أن التحصيل الضريبي يكاد يكون في أدنى مستوياته، أو أن المواطن يدفعها لكن ما يدفعه لا يعلم أحد أين ذهب ولن يعرف أحد ذلك حتى يتوقف "أحد ما" عن تكميم السؤال: "من أين لك هذا؟"!
من الناحية الأخلاقية، الطابور مقياس للصبر! ولعلني لا أغالي إذا قلت أن "صبر أيوب" قد تلاشى أمام "صبر النشمي"! فالنشمي صابر في الطابور على حرق أعصابه بالانتظار بدلا من حرق سيجارته بفقدان دوره لأن التدخين ممنوع في قاعات الانتظار المكيفة النظيفة! والنشمي صابر في الطابور على بلادة الخادم عندما يتوقف عن تقديم الخدمة لأجل نظرة عابرة على "الفيسبوك" أو لإعادة تغريد خبر أو مقال "تويتريا" أو للرد على "مسجات الواتساب" أو للتحدث عبر النقال أو للتكلم مع زميله عن أي شيء!
ومن الناحية الاجتماعية الحضارية، فهو معيار للالتزام. فالطابور له قاعدة عامة متعارف عليها هي: "من يصل أولا يخرج أولا". والنشمي "الكحيان" ملتزم بهذا المبدأ طولا وعرضا لا بل إنه إذا نظر خلفه على وجه الصدفة ووجد كهلا واقفا وراءه فإنه والشهامة قد انبثقت من أصالته يعطيه الأولوية "تفضل حجي" فيرد "الحجي" وقد أبرقت أسارير وجهه "بارك الله فيك يبني". أما النشمي "المكلح" فتجده قد تعامى عن طول الطابور أمامه وتخطاه بلا أدنى مبالاة لعجوز واقف فيه أو سيدة، ويمضي قدما مدعوما بالوساطة والمحسوبية وقد افترشتا له السجاد الأحمر ولسان حالهما يقول: "حكلي بحكلك"!
وفي سياق المعنى الحضاري الاجتماعي للطابور، يقال ولا أدري مدى صحة هذا القول أن نسبة الإنجليز القتلى نتيجة غرق سفينة تايتانيك كانت النسبة الأعلى بين جميع الجنسيات الأخرى، وذلك لأن الإنجليز وقفوا في طابور عندما أرادوا النزول إلى زوارق النجاة!
وأكثر طابور أخاف منه على وطني من أي طابور آخر هو الطابور الخامس الذي أومأ إليه الملك عام 2002 عندما قال في اجتماع عقد في وزارة الداخلية ضم نقابيين وحزبيين وسياسيين:" هذا خطر، الموساد الصهيوني متغلغل على الساحة الأردنية وهو مسلح، والذي يريد اللعب أنا سألعب". فهل ازداد عدد هذا الطابور مذ ذاك العام في طول البلاد وعرضها، أم أنه تم تطهير الوطن من أدران هذا الطابور؟
وأكثر طابور يخشاه الصهاينة على أنفسهم هو طابور انتظار "الباصات" الذي لم يرتق بعد إلى المستوى المطلوب في معظم أرجاء هذا الوطن! فقد قيل على لسان أحد قادتهم موشيه دايان: (لا أخاف من العرب مهما جمعوا من السلاح والعتاد، لكنني سأرتجف منهم إذا رأيتهم يصطفون بانتظام لركوب "الباص").
أما الطابور الوحيد الذي لا علاقة له بضريبة الدخل، ولا حاجة فيه لفيتامينات الصبر والانتظار من سيجارة وفنجان قهوة، ولا داعي للخوف منه، ولا يمل النشمي منه مهما طال، ومبدؤه العام المتفق عليه "بتعرف، أول واحد! ما بتعرف، آخر واحد!": طابور "لعبر عالا تركيا"!