من موقع مسؤوليتي في الجريدة «الدستور»، فانني مجبر على ان ادع التلفزيون مفتوحا على الفضائيات لاتابع الشريط الاخباري اسفل الشاشة ،خاصة حين تصفعني بـ «عاجل»:قتلى وجرحى و تفجير.اشعر ان الدماء تتناثر على قميصي من الشاشة والنار تحرق اعصابي مع ما تحرق من بشر و حجر وشجر.وما ان يحين موعد انتهاء الجزء الاول من العمل تكون روحي قد تناثرت اشلاء على ساحات الدم.
امرأة فلسطينية تبكي ابنها الشهيد ،طفلة فقدت ابيها برصاصة جندي صهيوني ،فتى في قبضة عشرة كلاب من جنود الاحتلال ينهشون جسده وكرامته ،يدعون انه مسلح بسكين مطبخ طعن احدهم .بعد ان منعناه من قتال العدو و جردناه من الكلاشينكوف والآربي جي وانزوينا في مطابخ المفاوضات السرية، صار طبيعيا ان يلجأ الفلسطيني المحتل الى سكين امه ليقاتل عدوه ,صارت السكين سلاحه الوحيد ،لم تعد لفرم الملوخية وتقطيع الدجاجة قطعا على عدد افراد العائلة ،حتى لو كانوا عشرة.
مشهد آخر حي من الأمة الميتة ،ام سورية عفر قدميها ووجهها تراب قريتها الذي ظل عالقا بها منذ غادرت وطنها .قالوا لها انها «الثورة» ،جمعوا «الثروة» وتركوها تجوع .تركت غرفة المونة في حوش الدار،عدس و برغل وشنجليش،فول وفريكة تكفي حتى الموسم القادم.تركت وطنا يأكل من ما يزرع.يلبس من ما يصنع ولا ينتظر قروض الدول الاستعمارية .وطن لم يطرق مرة باب البنك الدولي ولا مد يده لوكالة الغوث ابنة الامم المتحدة التابعة للولايات المتحدة.
يقال انهم اربعة ملايين لاجىء .هجرتهم الحرب وهجرهم الياسمين والحب.لم تعد الشام شام نزار حين قال:
مآذنُ الشّـامِ تبكـي إذ تعانقـنــي و للمــــآذنِ كالأشــجـــارِ أرواحُ
للياسمـينِ حقـولٌ في منازلنــــــا وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتــاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنـا فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ «أبي المعتزِّ» منتظــرٌ ووجـــهُ «فائزةٍ» حلــوٌ و لمـــاحُ
هنا جــــذوري هنا قلبــــي هنا لغـتــي فكيفَ أوضحُ؟ هل في العشقِ إيضاحُ؟
مشهد ثالث:مسن عراقي اكلته الحرب،حطمت عظامه، و شربت دمه بجماجم من سبقوه الى «الحرب على الطاغية واسلحة الدمار الشامل!» ابن دجلة و الفرات يستجدي شربة ماء ،ايضا من الامم المتحدة التابعة للولايات المتحدة .اهل النفط لا يجدون حطبا يشعلونه ليطبخوا لاطفالهم لقمة تسد جوعهم .
كان «العراق العظيم» الذي سُئل الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري لماذا تقول «العُراق» وليس العِراق» فقال : يعز علي كسر عين العراق.ها هم الاكراد يقيمون اسرائيل ثانية في شمال العراق.نحن لاننكر عليهم حق تقرير المصير واقامة دولتهم لكن لماذا في العراق وحده وليس في الدول الاربع حيث هم مشتتون.لماذا العراق الذي كانوا يتمتعون فيه بحكم ذاتي وكان منهم نائب الرئيس والوزراء بل لماذا كانت تسمى «جمهورية العراق»دون تحديد هويتها العربية كرما لعيون الكرد والمكونات الاخرى للشعب العراقي؟!
المشهد الثالث :عسكري يمني يتحدث عبر فضائية «عربية»: «لقد لقنا العدو درسا لن ينساه .قواتنا تتقدم نحو مواقع العدو .ويكرر كلمة العدو عدة مرات ! يا الهي انه يتحدث عن اخيه اليمني .اليمن السعيد لا يريدونه سعيدا ولا حتى سليما .انهم ينخرون عظمه وينهشون لحمه ويرسلون الكوليرا لتنوب عنهم في قتل اهله.
عليك ان ترى على مدار الساعة مشاهد اخرى اكثر ايلاماً، مجبر انت فهو عملك لكنه ليس أملك.عملك ان تكون شاهد زور على ما تتعرض له الأمة من تمزيق وهرولة نحو عدوهم الأول «اسرائيل».تكالبت علينا الهزائم حتى صرنا نشتهي الانتصار ولو على..ذبابة !!
الدستور