سالم جندي المطار غير المُعلن
د.مهند مبيضين
19-09-2017 01:45 PM
خلف باب الحمامات في الطابق الثاني في نادي الدرجة الخاصة، في مطار الملكة عالية، كان يجلس. بادرته بالقول: لماذا لا تبتعد من خلف الباب فقد يضربك، لم يجب، لوهلة اعتقدت أنه من جنسيات العمالة الأجنبية ولا يفهم العربية.
يحمل تلفونا ذكياً، يراقب بعيون يقظة البشر، لا يغفل ولا يكل عن المتابعة، وينظف باستمرار مكان عمله، كان اللقاء في موعد مناوبته مساء الثلاثاء الماضي 12 أيلول الساعة الثامنةمساء. وكان لافتاً أنه لا يبتذل نفسه ولا يٌقدم عن ما يَقدم عليه الآخرون ممن نجدهم في خدمات الحمامات ونظافتها، فهو بالكاد يبتسم، يداري نفسه كثيراً عن الحديث والمجاملة، ومعه حق، فأي وضع هو فيه، وأي عمل يناسب مؤهلاته.
ربما ليس لدى سالم وذويه نائب أو وجيه متقدم يخدمهم بوظيفة أفضل، ربما أنه الوحيد لأهله، ربما أنه يتيم من قوة تقدمه وترفع من شأن وظيفته في المطار الذي يعين جُلّ من فيه بالواسطة. وحاله حال كثيرين دون قدرة ووساطه.
سألته أنت من أي جنسية؟ لم يجب، اكتفى بالصمت. أعدت السؤال. تحدث بهدوء قائلاً أنا من هون، قلت ممتاز إن شاباً مثلك أردنيا يقبل بهذا العمل المقدس وهو محطة يمكن أن تغادرها للأفضل لاحقاً، ضحك بدون نِفس، وقال: انشاء الله. قلت له: أين تسكن قال أنا من مادبا، من عائلة كذا، ثم فصل بالهوية العشائرية الكريمة فقال سبعاوي، قلت والنعم. ثم سألته أنت دارس ثانوية، ظناً مني أنه لم يتجاوزها قال: لا، أنا دارس جامعة وخريج جامعة مؤتة.
تخصص سالم الرياضه، قبل براتب نحو 350 دينار وهو يعمل بالحمامات، وكل حكومة تأتي وتحدثنا عن استراتيجية جديدة للعمل، والخلوات تنعقد عن موائمة الجامعات مع سوق العمل، سالم يستحق أن يكون أمين عام وزارة وقائدا بين شباب الوطن لريادته في كسر تابوهات العيب، فأين مؤسسات الدولة عن هذا الشاب الذي استدان أو جاع كي يتخرج من جامعة مؤتة، ولو كنت مكان رئيس جامعته لطلبته وعينته مشرفاً في احدى الصالات الرياضية أو أن الجامعة الألمانية هي أقرب إليه وأولى به، لكن جامعتنا تستمع لمن يكسروا ممتلكاتها دفاعاً عن شرف العشيرة ويأتون في اليوم التالي بباشواتهم وأعيانهم للحليولة دون العقاب، وقد يتعين بعضهم بقوة الهيبة بالجامعات.لكن سالم أكبر بكثير من أولئك الأقزام والسوقة، فقد اختار أن يأكل بشرف وكبرياء ودافع عن شرف عيشه بطريقته المبجلة.
أين هيئة شباب كلنا الأردن وأين كل المؤسسات الوطنية. عن مئات من أمثال سالم كي نعقد لهم يوماً وطنياً يليق بهم على الأقل ونحتفي بهم وبقدرتهم على تخطي كل عيوبنا. ترى ما دور سالم في ديوان الخدمة المدنية، هل يحتاج لمقابلة لجنة الديوان كي يعين؟
سألته هل تعرف كيف يُعين الناس في المطار والملكية أجاب لا، وخرجت مثقلاً بكل الخيبات التي خلقتها حكوماتنا وفرص العمل الزائفة.
مَثلُ سالم كثيرون، يريدون عملاً وخبزاً ولا سبيل أمامهم، وقد شاهدت الكثير منهم في خدمات متعددة في فنادق البحر الميت، لكن أن يحمل خريج جامعة محترمة شهادة ويعمل في حمام وينظف وراء الناس،ولا يمد يده لأخ مال ولا يقطع الفاين للزبائن ولا يضع صحنا فيه دينار عند المغسلة، فهذا مؤشر خطير على هدر كرامة الناس وجرم بحقه وحق الوطن وحق سالم واحلامه وأمانيه. وهكذا تدفع الدولة الناس للتطرف بهذه الغفلة والقدرة على نسيان مسؤولياتها تجاه مواطنيها وكرامتهم.
سالم شاب نحيل، لكنه كبير القدر والإرادة، لم يكن حلق ذقنه ربما لأيام أو اسبوع، قد يحدث ذلك في عطلته حيث يغادر عالم المطار المليء بالتناقضات والظلم، سالم يفكر بالراتب، بكل تفاصيلة، يدبره ويصرفه، او قد يمنحه كاملاً للعائلة التي قد تعلم آخرين في الجامعات، لم تبلغ أحلامه امتلاك سيارة الأفانتي أو الكيا سيفيا، ويعمل ثماني ساعات ينتج فيها أكثر من كل مسؤولي الدولة. سالم هو عنوان خيبتنا اليوم لكنه قصة أمل وإشراقة جندي مجهول أراد أن لا ينتظر استراتيجيات العمل والتشغيل ووعود الحكومات والتنمية الكاذبة، بل أراد الانتصار على واقعه وفقره وعلى نهارنا السياسي المليء بالوعود والخيبات.
الدستور