في الرحلة الأولى للجنوب ، ولسيدة مدنها الكرك ، كانت الحافلة متعبة ، وشريط أغاني محمد عبده يحاول التخفيف من عصبية السائق ، والطريق طويلة والعينان تتابعان المساحات القاسية من البلاد، يمل الكلام مع رفيق الدرب والطريق لا تنتهي ...!!
عدت اليوم إلى الطريق ذاتها ، إلى الجنوب ، وربما في الحافلة نفسها ، لم يرافقنا صوت محمد عبده ربما هو أيضا هرم مثلنا ، ثمة المساحات نفسها من الصحراء القاسية ، وثمة وجع وشكوى أن هذي البلاد كما هي ، آلاف من شباب الجنوب عبروا الطريق الصحراوي وخرجوا من قراهم المنسية ، تلك القرى الفقيرة من كل شيء إلا من الطيب والمروءة والشهامة ، خرجوا مع الصباحات الندية قاصدين عمان ، وحاملين أحلامهم لعل العاصمة تفتح لهم متسعا وتحقق بعضا منها .
كم أريقت من دماء على جانبي الإسفلت الممتد في بطن هذي الصحاري ، لم تكن معركة أو ذودا عن وطن يغزى ، أو واقعة مع عدو ، لكن ذهبت الدماء ومعها أرواح غضى ، وأحلام شباب بعمر الورد لقاء حوادث سير ، في طريق متهالك يبتلع سنويا المئات من أبنائه .
منذ أكثر من عشرين عاما ، ومنذ أن كنت طالبا في جامعة مؤتة بداية التسعينات ، البلاد كما هي ، الطرق ، وجوه الناس .. ربما فشلت كل خطط الحكومات أن ترفع من مستويات التنمية ، أن تكافح الفقر الذي يتسع ، أن تفتح مصنعا واحدا لتساعد الناس ، أن تقنع طفلا واحدا أن الحكومات ما زالت تهتم بوجع الجنوب والقرى المهمشة ، والأطراف التي تزداد بعدا عن المركز .
"الأردن ليس عمان " تسمعها من سكان هذي البوادي ، تعبوا من نقل مرضاهم لعمان ، ومات بعضهم قبل أن يصل للعلاج ، وتعبوا من الركض بين الوزارات ، وضاعت معاملاتهم قبل أن تصل مكتب "معاليه" ....!
الذين حموا عمان هم أبناء القرى والبوادي ، " الأقل حظا " ، وأبناء " الجيوب الأشد فقرا "، أبناء محافظات " الأطراف المهمشة " ، " الأقل تنمية " والأشد وجعا ، هم هؤلاء الذين دافعوا عن شوارعها ، وقدموا أرواحهم رخيصة لتظل عمان سيدة المدن والكبرياء ، في الطريق إلى الجنوب ثمة ذكريات لم تغادر ذاكرتنا، وواقع قاس كان ومازال كما هو ....!