إصلاح التعليم العالي يحتاج إلى قرارات وليس إلى خلوات
أ. د. انيس الخصاونة
17-09-2017 02:36 AM
منذ إكمالي لدراستي العليا في الولايات المتحدة عام 1986 ومزاولتي لمهنة التدريس والإدارة الأكاديمية في عدد من الجامعات الأردنية الرسمية وأنا أسمع نفس العبارات المكررة التي يرددها المسؤولون في التعليم العالي والجامعات حول إصلاح التعليم العالي، وإزالة الاختلالات التي تشوبه، وموائمة المدخلات مع حاجات سوق العمل، والتركيز على الجودة، وتشجيع التعليم التقني. نعم منذ ثلاثين عاما لم تتحقق أي من هذه الأهداف ولم يتجسد أي من هذه الشعارات البراقة التي تدخل في باب علم الكلام لا في باب الوقائع والأفعال .كثيرون ممن يرفعون هذه الشعارات حفظوا الدرس ولديهم خطابات جاهزة ويتقنون استخدام المصطلحات لكنهم أنفسهم ساهموا بما وصل إليه التعليم العالي حاليا من خلال المواقع الجامعية التي شغلوها على مدار ثلاثة عقود من الزمن فهيهات أن يتحول هؤلاء إلى مصلحين حيث لم يسجل التاريخ قط إنجاز الإصلاح بذات المعاول التي تسببت بالعطب والانهيار.
ضمن هذا السياق ،عقدت في البحر الميت قبل يومين خلوة من أجل إصلاح التعليم العالي تناول المتحدثين فيها موضوعات مكررة ومألوفة مثل الاستقلال الإداري للجامعات الأردنية ، ومواصفات الخريج الذي نريد، والبيئة الجامعية والمناهج وغيرها من الموضوعات التي أشبعت بحثا ودراسة وتشخيصا على مدار عقدين من الزمان. هذه الخلوة التي حضرها ما ينوف عن ثمانون شخصية في مجال التعليم العالي جاءت لتقييم واستكمال ترجمة وتطبيق الاستراتيجية الوطنية للموارد البشرية ودمجها في سياسات التعليم ولم يكن في ذهن أعضاء لجنة التقييم المشكلة من قبل المجلس الاقتصادي والاجتماعي أن الخلوة هي من أجل ندوات وأوراق عمل وإنما جاءت لأجل تخصيص الوقت الكافي لمراجعة التقييم المقدم من وزارة التعليم العالي لمستوى الانجاز في دمج وترجمة الاستراتيجية الوطنية للموارد البشرية في سياسات التعليم العالي.
الملفت للنظر في خلوة البحر الميت تلك المساحة والظهور الإعلامي الذي منح لبعض الشخوص والمسئولين الجدليين في الجامعات ممن تلاحقهم شبهات فساد كبيرة ويخضعون لتحقيقات في قضايا منظورة من قبل الجهات الإدارية والقضائية المختصة. يتساءل بعض المتابعين للشؤون التعليم العالي عن مسوغات اختيار بعض المسئولين ممن يدور حول سوية أدائهم لغط كبير وإشارات استفهام خطيرة، لمخاطبة ثمانين رمزا من رموز التعليم العالي في المملكة والتحدث في شؤون إصلاح الجامعات ورفع جودة التعليم العالي!!! بعض هؤلاء المسئولين تولوا الإدارة الجامعية وتراجعت في فترة ولايتهم نفقات كل من الابتعاث الخارجي والبحث العلمي في الجامعات التي ابتليت بكذا إدارات إلى ما يقارب النصف خلال عامين ،علما بأن ما يميز الجامعات عن المدارس الإعدادية والثانوية هو هذين البعدين المهمين في مجال الابتعاث الذي يمثل شريان حيويا ومهما لإمداد الجامعات بأعضاء هيئة التدريس المؤهلين والمتمكنين علميا من التدريس والبحث ،أما الجانب المتصل بالبحث العلمي فهو الذي يكفل استمرار تطوير أعضاء هيئة
التدريس لأنفسهم وإمكاناتهم وتحديث مجالاتهم المعرفية ومواكبة المستجدات التي طرأت على حقولهم التخصصية.
إصلاح التعليم العالي ،كما هو الحال في شتى مناحي الإصلاح في الدول الحديثة يحتاج إلى قرارات وليس إلى خلوات ومن أبرز هذه القرارات قيام الحكومة بتغطية الفرق في الرسوم بين الكلف الحقيقية للتعليم الجامعي وبين الرسوم الحالية المتدنية التي تفرضها الحكومة على الجامعات، وإلغاء البرنامج الموازي كما ورد في الاستراتيجية الوطنية. الإصلاح يتطلب أياد وقيادات إصلاحية تتوفر فيها ليس فقط المقدرة والتأهيل الورقي والشهادات وإنما القدرة الحقيقية على السلوك والممارسات الإصلاحية. من جانب آخر فإن قيادات الإصلاح في التعليم العالي ينبغي أن تتوفر فيها ذهنية إصلاحية ونزاهة وسجل نظيف من الممارسات البعيدة عن التحيز والمحسوبية تماما مثل تلك الشروط والمتطلبات المتصلة بالنزاهة والموضوعية والحس العالي بالعدالة التي ينبغي أن تتوفر في القضاة إضافة إلى المعرفة الفنية والقانونية .
إصلاح التعليم العالي يحتاج لإرادة سياسية ، واليوم نجد أن اهتمام وزارة التعليم العالي والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ربما يعكس جزئيا الإرادة السياسية الإصلاحية لهذه القطاع المهم ، ولكن اختيار بعض الوجوه غير الإصلاحية لتتصدر عمليات الإصلاح يضع إشارات استفهام كبيرة حول قدرة الحكومة على تحويل الاستراتيجية الوطنية للموارد البشرية التي حظيت بمباركة الملك إلى واقع عملي حقيقي في جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية. الحكومات إذا ترك لها الأمر لن تفعل الكثير من أجل الجامعات، ويشعر كثير من الأردنيين بأن انشغال حكومة الملقي بكيفية التعامل مع الواقع الاقتصادي الصعب جدا الذي تعيشه المملكة اليوم، وتوجهها المؤسف لزيادة الضرائب وما يمكن أن ينجم عنه من تداعيات سياسية واجتماعية يجعل إصلاح التعليم ليس من ضمن أولويات هذه الحكومات. نعول على اهتمام الملك بموضوع الموارد البشرية والتعليم بشقيه الأساسي والعالي ونأمل أن تترجم حكومة الملقي اهتمامات الملك في إصلاح التعليم العالي.