الأعاصير بين الله وحيرتنا
سيف الله حسين الرواشدة
16-09-2017 03:15 PM
تباين أحكام النَاس و آرائهم حولَ الظّواهر و الوقائع قديمٌ قِدم البشر، قد تحيطُ ببعض أسبابه؛ من اختلاف البيئات والتّكوينات النّفسية و التّراثية و المراجع و الأطُر المعرفيّة و ظروف التّربية، و ما نحملُه من عاداتٍ و تقاليدَ و أفكارَ سابقة، و زاد البعضُ إذ قالَ أن لا سلطة حقيقيّة للفرد تجاه هذا الاختلاف إلا قليلًا، فأيّ فعلٍ تلومُ صاحبَه عليه لو وُجدت في مكانه و تحتَ ظروفه و ما مرّ بهِ من تجاربَ لفعلتَ فعله! و لقلت مثلَ قولِه! فكلّنا لا نخلو من الحقّ و الباطلِ و لكنّنا نختلف في نسبهما، و قد نكونُ "صوبَاً يحتمل الباطل، و باطِلاً يحتملُ الصّواب". و لا نُحيط نحن لزامًا بالأكثر من مسببات الاختلاف.
وقد يظهرُ من هذا التّباين رأيان ينقسم النّاس بينهما نسبيا بين مغالٍ و متعاطفٍ وميًال، ليحتدمَ بينهما الصّراع على تشكيل الرّأي العام إزاء حدثِ معيّن و لنأخذ الأعاصير الأخيرة التي أصابت الولايات المتحدة مثالاً نستعرضه سويّة.
انقسم النّاس نسبيًا حول موقفين من هذه الأعاصير، ففريق فسّرها على أنّها تمثّل غضبًا من الله و عقابًا، و الثّاني نَقم على الأوّل تشفّيه و خمول تعاطفه الإنسانيّ مع الضّحايا المدنيّين، و ساق الجميع الحججَ و المقدمات و النّتائج المنطقيّة التي تدعم موقفه و تجرح خصمه شخصًا و ادعاءً. و لسنا هنا بصدد نصرة فريقِ على آخر، لكن ما يهمّنا هو البحث عن مسببات تكوين هذي الآراء، و نظنّ أنّها مجرّد انعكاساتٍ و ظواهرَ لمشكلةٍ قد يكون مجتمعنا يعاني منها، فنحن نريد أصلها لا ظلالها بحثًا و دراسةً ما وسعنا ذلك.
إنّ تفسير الظّواهر الطّبيعيّة و احالتها إلى غضب السّماء قديمٌ جدًا، سانده في سالف التّاريخ جهلُ البشر بمسبباتها المباشرة و حاجة عقولنا لإزالة الغموض عنها، وبقي يدعمها حديثًا إيماننا الرّاسخ أنّ كلّ شيء يحدث في هذا الكون يقع ضمن إرادة الله -مع اختلاف تفاسير الجملة الأخيرة- و ممّا سبق نجد أنّنا قد ندعو على الظّالمين بأن يُصابوا بفتك هذي الظّواهر و غيرها و نسببها بظلمهم و ابتعادهم عن الصّواب من دون أن نتوقف عند مقدمات هذه الأحداث، من الاحتباس الحراريّ و تغيّرات المناخ للأعاصير مثلًا، و حتى لمّا تكون المصيبة من حظّنا كالزّلازل أو اجتياح المغول لبغدادَ قديمًا، علّلنها بالابتعاد عن مستقيم صراط الدّين -و لم يذكر من النّاس إلا قليلاً ضعف الدّولة العباسيّة الذي امتدّ أكثرَ من 100 سنة قبل السّقوط، وسيطرة السلاجقة عليها وتنازعهم بين بعضهم، و تقليص جيش خلافة بغدادَ ليُمسي ثلَة من الحرس الخاص، و مداهنة المعتدي بالهدايا و الأعطيات و نهاية خيانة بعض المقرّبين -و تحمل هذه النّظرة خلفها شعورًا عظيمًا بالمظلوميّة و طلب العدل من الله فقط بتدخّلٍ مباشرٍ خارج سنن الكون و قواعده (على طريقة المعجزات) و عدم تصالح مع الواقع و رفضه باعتقاد فساده مع شعور عميقٍ بالهوان و ضعفِ القوّة و قلّة الحيلة، توازيه ثقةٌ كبيرة بصحّة المعتقد و القرب من الله من دون باقي البشر فهم الناجون و الغير هم لنفسهم ظالمون.
أمّا النّاقمون فيشعرون بالاستعلاء الأخلاقيّ الوهميّ على الفريق الأوّل، يحملهم على هذا قيم الحضارة المدنيّة و الإنسانيّة التي يظنّون بها، و هذا الاستعلاء قد يتحوّل إلى بغضٍ و كرهٍ لمخالفيهم متهمين إيّاهم بالرّجعيّة و الوحشيّة تهكمًا و قرفًا، محمّلين إيّاهم كلّ ما حاق بنا من ظلمٍ و كبتٍ و تأخّرٍ عن ركب الأمم، و أنّ جمودَهم و تمسّكهم في فكرٍ وسطى العصور هو الطّامة الكُبرى التي ابتُلينا بها و هذا فيه كثيرُ من الظّلم و الجهل، و كل ذلك طبعًا يغلق باب النقّاش بينَ الفريقين و يحوّل أيّ مناظرةٍ بينهم لصراعٍ طاحن يُقصد به هزيمة الخصم لا الصّواب.
و أنا صراحًا لا أري فارقًا بينَ الطّرفيين، فكلاهُما مؤمنٌ بما يظنّ و تنطبق عليه أحكام العاطفة المتعلّقة بطبيعة الإيمان، و كلاهما يضع نفسَه فوقَ صاحبه رغمًا و يحتكر الحقّ لنفسه، و كلاهما ضحيّة قد لا يملك من أمره ما يظن، و هذا حالُ البشر كلّهم بتفاوت ظروفهم و أحوالهم. و يبقى السّؤال إذا اتفق الجوهر ففيما اختلاف المواقف؟
أظنّ أنّ الاختلاف يُعزى لما جرى لنا في آخر ثمانين سنة، فنحنُ قبلَ هذا كنّا بعيدين عن منتجات الحضارة الغربيّة الماديّة و الفكريّة، و كانت عمّان قرية و كُبرى محافظاتنا لا تعدو على تجمّعات سكّانيّة متوسطة الحجم، تنعدم فيها المدارس و الجامعات و المتعلمون و المثقفون و منتجات الحضارة ممّا نعتادُه اليوم من سيّاراتٍ و طائرات و غيرها و نستثني من هذا قليلًا ممّن رحم ربّي طبعًا، و كانت تسيطر علينا صور تراثِنا و ما اعتدنا و وجدنا عليه آبائنا في كلّ شيء من صفات الرّجولة إلى الكتّاب و شيخه، و كأنّنا تجمّد عندنا الزّمن قبل 700 عام.
و نحن الآن نستعمل تقريبًا كل منتجات هذه الحضارة و بعضنا يتحذلق بأقوالِ علمائها و كبارها و يدين بنظرتهم، و بقي أيضًا كثيرٌ من ماضينا يسكننا فالثّمانين عامًا ليست مدة كافية ليكون هذا التّغير العظيم سلسًا، و قد يصحّ أن نقول أنّنا في المنزلة بين المنزلتين، فلا نحن ندين للحضارة الغربيّة بالولاء و الاقتناع التّام، و لا نحن بقينا على حالنا، و هذا مكمن التّناقض فينا، فمن يتشفّى بالإعصار يستعمل الهاتف و السّيارة و معظمَ مخرجات هذه الحضارة و قد تستحيل حياته دونها، و من ينكر التشفّي فلا يؤمن باختلاف الرّأي و الحرّيات و لا أنتج لنا نماذج حضاريّة كالتي استخدمت في إجلاء أكثرَ من 6 ملايين شخص من دون وقوعِ خسائرَ تذكر، و لا أخذَ على عاتقه الارتقاء ببني قومه و اكتفى باستعلائه عليهم، و لا ننكر استثناء بعض النّاس ممّا سبق.
و ختامًا قد يقول أحدكم أنّنا أحسنّا بعدم اندماجِنا الكامل مع الحضارة الحديثة، و وقفنا في وجه علمنة الأخلاق والأفكار.
و قد يكون هذا قولٌ حسن، لو كنّا نملك مشروعًا بديلًا يناسب أحوالَ عصرنا و ظروفِنا معتمدًا على تنظيرٍ متينٍ يقف على تصوّراتٍ واضحةٍ لتراثنا و مستقبلنا، و هذا ما ينقصنا. فلا يجوز لنا أن نذوبَ في تصوّرات الغير الجارفة لنا اليوم و لا يصحّ أن نبقى على حالنا أو عند اجتهادات العصور الوسطى التي هي نفسها لم تقف عندَ أقوال سابقيها و الله هو المقصد و المستعان .