العلل الكامنة في النفوس الواهنة
سامر حيدر المجالي
17-01-2009 01:12 PM
المحرقة التي تتعرض لها غزة ، على يد الصهاينة ومن آزرهم من عتاة الإجرام والوحشية ، ومن غض الطرف عن أفعالهم من بني جلدتنا وذوي أرحامنا ، تُبرزُ صراعا داخل الجسد الواحد ( إن كان بقي ثمة وحدة ) بين المقاومة - من حيث هي فكرة - وشرعيتها ومنطقها الذي تستند إليه ، وأولئك الذين يقفزون فوق الفكرة ويجعلونها وراء ظهورهم ، فيختصرون طريقهم ويجملون موقفهم بالنيل من المقاومين ورموزهم ورميهم بشتى أنواع التهم والنقائص .
موقف جدير بالوقوف عنده ، ليس من أجل الدفاع عن المقاومين ، وهذا شرف في حد ذاته ، ولا من أجل كيل الاتهامات وتعرية مواقف المتخاذلين ، وإنما من أجل استخراج العلل الكامنة في النفوس ، والتذكير بأن الذي يحدث ليس وليد الساعة ولن يتوقف عند غزة أو غيرها .
البارز جدا عند هؤلاء البعض ( وما أكثر البعض في حالتنا ) أنهم يتجنبون الطعن في فكرة المقاومة ، لا حبا فيها ، ولا حرصا على الاحتفاظ بهذا الخيار ، وإنما تجنبا للإدانة المباشرة التي ستظهرهم على حقيقتهم وتعري زيفهم وتخاذلهم ونكوصهم عن الإتيان بأضعف أنواع الإيمان ، الإيمان القلبي ، الذي هو مناط النية ، وما أقبح بعض النوايا لو تم الكشف عن مخزونها .
لهذا السبب تراهم لا يقدمون حلا لمعضلة ، يتباكون على الشهداء حينا ، ويتحدثون عن الحسابات الخاطئة حينا آخر . ناسبين هذه الحسابات الخاطئة – من وجهة نظرهم - إلى ارتباط المقاومة بمشروع خارجي ، زعما منهم أن رموز المقاومة يطمحون الى تحقيق غايات شخصية وتكريس أنفسهم كزعماء أو قادة على حساب الشهداء والدم المسفوح . وهنا تبدأ رحلة الشخصنة مع هؤلاء ، والنيل من فلان وعلان ، وتسمع عبارات على شاكلة ( مقاومو فنادق الخمس نجوم ، ومجاهدو الخطب والحناجر ) فيبدو على أوضح صورة منطقهم المتهافت ، وغياب وعيهم وتخبطهم ، وعجزهم عن الانتصار لمبدأ الحرية والعزة على أقل تقدير . وهم معذورون في ذلك على كل حال ، لأن جو الشخصنة هو الجو الذي تعيشه الأمة كلها منذ زمن بعيد ، فالأشخاص هم الفلك الذي تدور فيه الأشياء ، قبل الأفكار وقبل المبادئ الراسخة .
فكيف لمثل هؤلاء أن تستوعب رؤوسهم فكرة أن هناك من يقاوم ويقدم التضحيات الجسيمة من أجل هدف سام نبيل ، ومن أجل تحرير شعبه من ربقة الظلم والاحتلال ، ونيل إحدى الحسنيين ، النصر أو الشهادة . يرون مواكب الشهداء أمامهم بالمئات ، وقادة المقاومة وأبناؤهم وزوجاتهم هم أول الشهداء وأكثرهم اصطلاء بحمم السماء وبراكين الأرض ، لكن ظنهم لا يتزعزع ، ويبقون مصرين على تقديم سوء الظن والشك في النوايا .
ولاعجب في ذلك ، ولنكن صرحاء مع أنفسنا وأكثر تفصيلا في بيان الصورة ، فكيف يمكن الخروج من شخصنة المواقف وجل ما يعيشه هؤلاء من حولهم غارق في عالم الاشخاص . الاوطان قادة والمذاهب الدينية أئمة وطرق العبادة شيوخ . فهم على المستوى السياسي يعيشون في أوطان يدور كل منها في فلك الزعيم الأوحد الذي يتعامل معه شعبه على قاعدة ( ما شئت لا ما شاءت الأقدار ) وهو نفسه القائد الملهم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. دول ليست أكثر من كيانات خاضعة لعصبيات مستولية تخضع لمشيئتها البلاد ورقاب العباد . أما على مستوى التدين والعبادة فأكثر ما ننتظره هو مهدي منتظر يتم النصر على يديه بخارقة من خوارق الطبيعة ، وليس عبر عمل مستمر ورغبة في التقدم والنهوض . أما المذاهب فهي آراء جامدة وشيوخ توقفت عندهم منذ زمن بعيد قدرتنا على الاجتهاد . ولا يخفاكم ما عانته الأمة من صراعات طويلة بين هؤلاء وأولئك ، من أشاعرة وحنابلة وشافعية وغيرهم ، كل فرقة تنتصر لرأي شيخها وتذود عنه ، فكان حالنا أن الحق يعرف بالرجال ، وليس كما هو واجب بأن الرجال يعرفون بالحق . حتى كتب التاريخ التي تتحدث عن العصور الذهبية للأمة تبرز الانجاز باسم القادة العظام في فترتهم ، ولا تتناول بالبحث تفاصيل الانجاز والقاعدة البشرية التي ارتكز عليها .
هؤلاء في ظل تضاؤل قيمتهم وشعورهم بالدونية في أوطانهم ، يصعب عليهم التصديق بأن هناك أشياء في الدنيا قد تحكمها فكرة ومبدأ ، وليس شخصا وقرارات فردية .
هذا هو داء الشخصنة قديمه وحديثه ، ما زال فاعلا حتى الساعة مقيدا فكر هؤلاء من حيث يشعرون ولا يشعرون . فهم في حقيقتهم - وان لبسوا لبوس المدنية والحضارة وارتقوا ذرى الشهادات العلمية - نتاج مجتمع مهزوم متخلف ما زال عاجزا عن عبور قنطرة التبعية والقهر والاستبداد ، وما زال غير قادر على استيعاب الاختراق الذي تحققه المقاومة لنظمه وعاداته . لذلك يكون الآخر الذي لا يوافق هواهم متهما ، فهو دائما طامع أو صاحب مشروع أو دمية بيد الآخرين .
ثم يلتقي هذا العامل ، أي دورانهم في فلك الأشخاص وبعدهم عن الموضوعية ، مع شعورهم بالعجز والدونية والتخاذل ، فيلجئون من حيث لا يعلمون إلى الحيل اللاشعورية ، التي يواري العاجز فيها عجزه والناقص نقيصته بالتشكيك في أصحاب الانجاز والناجحين ، فيقلل من شأنهم ويتهمهم بما شاء . وهذه الحيل الشعورية هي عيوب نفسية راسخة عندهم ، يعرفها علماء النفس جيدا ولا داعي هنا للاستفاضة في شرح تفاصيلها .
خلاصة القول ، أن محرقة غزة لم تكشف جبن عدونا ودناءة معدنه ، فهذا شيء نعرفه منذ زمن طويل . لكنها كشفت بشكل أوضح مستوى ( التنبلة ) الذي وصل اليه الكثيرون منا ، نتيجة تراكمات القرون وعقدهم النفسية المترسخة . فهل الى خروج من سبيل ؟ وهل يقتنع التنابلة بأن المحرقة قادمة اليهم ان لم يغيروا طريقة تفكيرهم وتقييمهم للأمور ؟
Samhm111@hotmail.com