البشير يكتب لـ "عمون": الحجر يزحف ويلتهم "عمان" و"الشجر" يموت بصمت .. وهذا هو الحل
المهندس عامر البشير
11-09-2017 02:41 AM
يمكنُ الإقرار ببساطة اليوم بوجود "ثنائية متلازمة" تعتبرُ أساسيةً ومرتبطةً عندما يتعلق الأمر بمعايير "المدن المستدامة"، حيث يعتبر تشجيع "البناء الأخضر" بمثابة الشقيق إلى جانب ملفِ إدارة النفايات وتدويرها... هي عناصر لا بدّ من التعاطي معها ومحاكاتها، إذا كنا صادقين ومسئولين في التخطيط لمستقبلِ مدينتنا وعاصمتنا الحبيبة عمّان.
يحلُّ موضوع إدارة النفايات الذي تحدثنا عنه في مقالنا السابق بوقارٍ في مقاعد هذه العائلة المتجانسة، ويجلسُ بجانبه في مقعدٍ متقدمٍ ملفّ المساحات الخضراء، الذي نُخصّص مقالَنا هذا عنه اليوم، حيث أن التلازمَ هنا ضرورةٌ علميةٌ وعمليةٌ مُلحة؛ لأنّ الأمرَ برُمتهِ يتعلّقُ بتحسين الوضع البيئي للمدينة، حيث زيادة الغطاء الأخضر من خلال إنشاءِ الحدائق العامة، وتحقيق شراكات ما بين الجهات التنظيمية مع ملاّك الأراضي؛ لزيادة الغطاء الأخضر داخل وحول المدينة.
وحيث لا بدّ للجهات التنظيمية وأوّلها أمانة عمّان أن تتبنّى هذه المعايير، بالإضافة لتشجيع البناء الأخضر؛ لضمانِ كفاءة وخفض استهلاك الطاقة في المباني، إلى جانب تحقيق الحصاد المائي واستخدام مواد بناء صديقة للبيئة، وزراعة أسطح المباني، ضمن جملة حوافز يتمّ تضمينها لنظام ِالبناء المعمولِ به في أمانة عمّان.
توفير مساحات خضراء تتنفس عبرها المدينة، لم يعد خياراً ترفياً، بل عمليةً استثمارية في الإنسان والمكان، تعود بمكاسب وفيرة وكبيرة على الجميع. تلك المساحات مهمةٌ لتعزيز مفهوم "الصحة العامة" الذي يتطوّرُ بشكلٍ متّسقٍ في عالم اليوم، حيث أنشطة "الهواء الطلق" مثل ركوب الدراجات والمشي والجري، بالإضافة لتوفير الخدمات الأفضل للنساء والأطفال وكبار السن، وتحسين نوعية التنقل الآمن.
ولا مجال للاختلاف أنّ المساحات الخضراء تؤدي لتخفيفِ الآثار السلبية لتغيّر المناخ، ومعالجة الاحتباس الحراري، وتعزيز الصحة العامة، وخاصة أمراض القلب والتنفّس والسمنة وغيرها، وتحسين نوعية حياة السكان الذي ينعكس أيضاً على الصحة النفسية للأفراد، وخفض الاجهاد النفسي ونسب الاكتئاب عندهم، مع توفير الفاتورة العلاجية العامة بالمُجمل.
مثل هذا الطرح ينبغي أن يكون أساسياً عندما يتعلّقُ الأمر بالحدِّ من عدد المحرومين اقتصادياً واجتماعياً، وبإذابة ما يُمكن من الفوارق الاجتماعية، وخفض فوارق الحالة الصحية الناتجة عن فروقات الدخل، وتقليل الضغط النفسي ومواجهة "سايكولوجيا" سكان المدينة بالغطاء الأخضر.
التخلّصُ من المساحات الجرداء سلوكٌ حضري في بناءِ وتأسيس المدن وزيادة الغابات والأشجار، ويعرف الجميع قيمتها في المجال الصحي، وفي الجزء المُخصص للتربة وللزراعة، إضافةً للامتثال لتعليمات الدين الإسلامي الحنيف، ومع وصفات الاسترخاء العامة عندما يتعلق الأمر بتفريغ الطاقة السلبية كما تنص تعليمات علم "الفونغ شوي" مثلاً، ومن خلال شبكة السكينة النفسية والطاقات الإيجابية التي تتيحها النباتات داخل وخارج أسوار المساكن.
ثمةُ أسباب لنُدرة المساحات الخضراء في عمّان، أهمها قلّة الأراضي التي تملكها الخزينة وأمانة المدينة ضمن حدودها والمخصّصة للغابات وللحدائق العامة والمساحات الفراغية، وغياب السياسات التخطيطية والتنظيمية والأفكار المبتكرة في ظلّ ارتفاع والضغط على البُنى التحتية، والحاجة إلى تنظيم مناطق جديدة وممارسات تنظيمية من إفراز شوارع وقطع أراضي مُخصصة للبناء بغض النظرِ عن استعمالات الأراضي.
المُخرجات التنظيمية توفّر فقط الشوارع لخدمة السيارات وقطع أراضي تخدم المطوّرين، بغيابٍ تام للفراغات الحضرية والمساحات الخضراء والمناطق المخصصة للمشاة، كما أنّ نظامَ الأبنية الذي حدّد نسب المساحات الخضراء ضمن المشاريع عجز عن تحقيق استدامتها، في ظلّ غيابِ مفهوم المُلكية المشتركة في المباني ذات السكن المُتعدد والتشريعات الناظمة لها، وخصوصاً بعد منح اذن الأشغال للمشاريع المختلفة الذي يحدّد متطلّبات المساحات الخضراء كنسبٍ عند المنح، وغياب برامج التوعية المجتمعية والحوافز التي تضمن الاستدامة أو أيّ شراكات ما بين الملاكين والجهات التنظيمية.
بوضوحٍ شديد علينا أن نلاحظ: أنّ الحجرَ والاسمنت يزحفُ والمساحات الخضراء تنقرضُ وفي صمتٍ تحت مرأى المُخططين والمنظمين، وبمباركة أصحاب الأراضي ومُطوّري المشاريع، وغياب السياسات التي من مسؤوليتها تحقيق التوازن بين المساحات المبنية والمساحات الخضراء والفراغية.
طبعاً تتفاقم المشكلة كلما زادت الأسعار وزاد الضغط على السكن بالمدن، نتيجة الهجرات القصرية والداخلية، الأمر الذي يتطلّب أن تكون هناك استراتيجية لخلقِ التوازن في توفير مساحات خضراء، ولا بدّ من إعطاءِ الأولوية للأفكار المُبتكرة والخارجة عن المألوف التي توفّر كُلف استملاك على إدارة المدينة والتي تقدّر بعشرات الملايين سنوياً.
... هنا حصرياً لدي مُقترحات مُحددة تعمل على تحقيقِ نمطٍ متوازنٍ بين مساحات الخضراء والمساحات المخصصة للأفراد، عبر تشجيع إنشاءِ حدائقٍ طولية في حرمِ الشوارع الرئيسية، في حالِ تعذّرِ وجود ملكيات لإنشاء حدائق عامة.
على سبيل المثال فقط:- يمكن إنشاء حدائق طوليّة بحرم أو على جانبي طول شارع المطار وطوله 30 كيلو متراً، ويتوقّع توفير ما مساحته 2500 دونما. – وأيضاً في حرم الممر التنموي (شارع 100) بطول 17 كيلو مترا متوقع توفير ما مساحته 1500 دونما. – وكذلك في حرم شارع الحزام الدائري متوقع توفير ما مساحته 1000 دونما، وغيرها من الشوارع الدائرية حول المدينة والرئيسية الداخلة للمدينة من الاتجاهات المختلفة... على أن تضمَّ ضمنها ممراتٍ للمشاة وللجري ومسارات لرياضة الدراجات الهوائية.
ويمكنُ أيضاً اعتماد أنظمة ريّ بالتنقيط عميقة وليست سطحية، واعتماد آليات وأدوات للاستفادةِ من الآبار الجوفية على الطرق الدائرية ومحاور الرئيسية الداخلة للمدينة والرابطة بالمطار على ضفّتيه والرابطة بالمحافظات المختلفة.
تفعيل نظام الأرصفة والمعمول به في أمانة عمّان، على أن تكون سعتها تسمح بزراعة الأشجار بالأرصفة، وديمومتها وريّها يكون من مسؤولية الجهات التنظيمية أو أمانة عمّان.
بالإضافة إلى تعديلاتٍ تشريعية تسمح بحقّ الارتفاق والانتفاع بزراعة أشجار داخل حدود أراضي الملكيات الخاصة والأسوار القائمة، وديمومتها من قبل الجهات التنظيمية أو أمانة عمّان على طول الشوارع التنظيمية والإفرازية، والتركيز على المناطقِ الجديدة والأحياء التي في طورِ التوسّع العمراني.
كذلك تشجيعُ زراعة أشجار الظلّ قصيرة الجذور، والتي تتكيّف مع الطبيعة الصحراوية التي لا تؤثر على الأسوار والمدّات الأرضية والأساسات، كما لا تؤثر على البُنية التحتية من تمديدات ووصلات الصرف الصحي وخزانات المياه والحفر الامتصاصية، واعتماد أشجارٍ سريعة النمو مظّللة متساقطة الأوراق قليلة الكلفة، مثل شجرة الزنزلخت البريّة، متعددة الأسماء مثل ليلك الهندي، أو ليلك الفارسي وأحياناً تمر الأخرس، واسمه العلمي "ميليا" يتجاوز ارتفاعها عشرة أمتار، وتنمو بمختلف أنواع الأتربة وتتحمل الجفاف والصقيع، وتنمو جيداً في المناطق تحت الاستوائية والدافئة، كما أنها خافضة للحرارة وطاردة للحشرات والبعوض.
ويمكن ايضاً إنشاء صندوق يسمح باستيفاء مبلغ 5 دنانير عن كل متر من المساحات الخضراء التي يتعذّر توفيرها في المباني التجارية والصناعية، يخصّص لمشروع زراعة واستدامة الأشجار والزراعة الحضرية في المدينة، إضافة لقلب الارتدادات الخلفية في التنظيم السكني الذي يضمن زيادة المساحات الخضراء في الارتداد من جهة الشوارع، لتصبح أمامية واعتماد ذلك للمناطق الجديدة التي لم يسبق البناء فيها؛ حتى نضمنَ تراجع لخط البناء لصالح المساحات القابلة للزراعة.
ولا ننسى البحث عن أراضٍ خارج حدود أمانة عمّان، وعمل شراكات ما بين الجهات التنظيمية التابعة لها مع وزارات البيئة والمياه والزراعة من خلال دائرة الحراج ومعسكرات الشباب التابعة لوزارة الشباب؛ لغايات زراعتها وتوفير غطاء يحقّقُ جزءاً من الحزام الأخضر حول المدينة، منها على سبيل الذكر لا الحصر: مقالع الفوسفات القديمة في الرصيفة " شرق عمّان" 17000 دونما، بالإضافة ما تبقى من أراضي مدينة العزم جنوب مطار الملكة علياء 3000 دونما وقطع الأراضي الكبيرة التابعة لخزينة المملكة الأردنية الهاشمية والتي في حكمها.
إذا أردنا التصرف بمسئولية في هذا المضمار لابد من فتح الباب للشراكة مع القطاع الخاص في إنشاء وإدارة وصيانة وديمومة الحدائق الطولية والغابات المختلفة، مع تخصيص مساحة إعلانية وترويجية للمساهمين من القطاع الخاص في نطاق مشاركتهم من واقع المسئولية الاجتماعية لمؤسساتهم.
...هذه خلاصة ما نريد التحدث عنه عندما يتعلق الأمر بعائلة المعايير العصرية التي يكسب الجميع بموجبها، وتسترخي المدينة وتتكيف مع واقعها الجغرافي وتغذي سيكولوجيا الانتماء لأهلها وسكانها، حيث لابد من التذكير بأن الأفكارَ البسيطة غير المُكلفة التي تتناسب مع واقع المدن وطبيعتها وظروفها وثقافتها السائدة هي قصة نجاح في ذاتها تتقدّم عن القصص التي توفّر لها موارد مالية وإمكانات توازي تجارب مدن النفط التي لطالما توفّر لها كل أسباب النجاح والديمومة... وللحديث بقية.
*المهندس البشير: نائب أمين عمّان سابقاً، وعضو مجلس النواب السابق، ورئيس لجنة الخدمات العامة والنقل النيابية في مجلس النواب السابع عشر.