دستويفسكي .. السجن رحلة إلى منزل الأموات
09-09-2017 12:13 PM
عمون- في عام 1848 انضم «فيودور دستويفسكي (30 أكتوبر/تشرين الأول 1821- 28 يناير/كانون الثاني 1881) إلى جماعة ثورية، فقبضت عليه السلطات الحاكمة، وقدمته إلى المحاكمة، وصدر عليه حكم بالإعدام، خفف إلى السجن مع الأشغال الشاقة والنفي إلى سيبيريا، وبعد أربع سنوات من سجنه أفرج عنه، وألحق بخدمة الجيش جندياً، مبعداً عن بلاده، ولم يسمح له بالعودة إلى روسيا إلا بعد عشر سنوات، استأنف بعدها كتاباته، وكان لتلك الفترة أثر كبير على صحته، لكنها زادت من قدرته على الإنتاج الأدبي.
لم يعلم السجن دستويفسكي كلمة الصمت المطلق في شؤون السياسة والاجتماع، ففي الأيام المظلمة التي قضاها في المنفى أنعم التفكير فيما يقاسي الشعب من عناء، وأخذ بعد عودته إلى بلاده يبحث عن وسيلة تعينه في نقل مشاعره وآرائه إلى الجماهير، ففكر في إصدار مجلة، كانت عودته إلى بطرسبرج في عام 1859، وحاول أن يلائم بين ما تغير في نفسه وبين المجتمع المتطور الجديد، ففي عام 1861 صدر قرار بإلغاء الرق، وأدخلت تعديلات على النظام القضائي.
وبرغم الخطوات الواسعة التي خطتها روسيا نحو العدالة الاجتماعية، فقد قويت شوكة الثوار، وانضم كثير من المثقفين إلى طبقة الساخطين، وتطرف الثوار في آرائهم، وحرضوا الجماهير على العنف، وأراد هؤلاء أن يمجدوا دستويفسكي باعتباره كان سجينا مضطهداً، وتحمسوا له وأحاطوه بهالة من التقدير، غير أنه لم يبتهج لهذا الاستقبال، رغم أنه كان يطوي بين ضلوعه نفسًا نزاعة إلى الحرية والمساواة بين الناس.
ولم يكن ذلك لأنه أشد محافظة وأقل تقدماً في آرائه من شباب الجيل الناهض، فإن الحبس والنفي والتشريد لم يؤد به إلى الجمود في آرائه الاجتماعية والسياسية، وكان عزوفه عن تهليل الثوار له عائداً إلى أنه بدأ يرتاب في صحة الآراء الجديدة، وفي هذا الجو وتلك الظروف كان دستويفسكي يشغل ذهنه بفكرة إصدار المجلة، وكان عليه أن يتغلب على كل ما يصادفه من عقبات، فهناك منافسة الصحف القديمة، وهناك رقابة رجال الشرطة باعتباره سجيناً سابقاً، وهناك صعوبة استصدار تصريح بإخراج المجلة، واستطاع في نهاية الأمر أن يذلل هذه الصعاب، وأن يخرج صحيفته إلى النور.
ويرجع نجاح مجلة «الوقت» إلى أن ما كان ينشره فيها دستويفسكي من أعمال أدبية، ومنها رواية«منزل الأموات»، كانت الرواية قد نشرت مسلسلة في مجلة «الوقت» وهي عبارة عن فصول مختلفة، لا تربطها عقدة واحدة، يصف فيها دستويفسكي حياة المساجين وصفاً دقيقاً، ويحلل مشاعرهم تحليلاً صادقاً، ويروي بعضهم قصة الجريمة التي أدت به إلى السجن، ويرغمك الكاتب على أن تمنحهم عطفك.
يهتم دستويفسكي في جميع قصصه بتحليل النفس الإنسانية، ويعالج أمراض المجتمع في أشخاص رواياته، وهو يعتقد أن لدى كل امرئ نزعة إلى الخير مهما كان شريراً، ونزعة أخرى إلى الشر مهما فاض قلبه بالخير، ومن ثم كان عطوفاً على الناس متسامحاً معهم، واقعياً يرى أن الأخلاق الكريمة لا بد أن تتأثر بما يحوطها من ظروف، وكان تأثيره في جميع الأدباء الغربيين بالغا.
«منزل الأموات» في جملتها أقرب إلى المذكرات منها إلى الرواية، هي مذكرات رجل قضى في السجن عشر سنوات عقوبة له على قتل زوجته، مذكرات يدون فيها الرجل تجاربه وملاحظاته في أحد سجون سيبيريا، ولم يحاول دستويفسكي أن يضم خبرته الشخصية عن حياة السجون من خلال صفحات الكتاب، حتى تكون المذكرات أقوى أثراً في نفوس القراء، ولم يحاول دستويفسكي أن يقف من قارئه موقفًا أشد.
الرواية تتسم بالواقعية الصارمة، و القارئ يتعجب كيف استطاع المؤلف أن يجرد الكتاب كل هذا التجريد من تجاربه الخاصة التي كان لها أثر كبير في حياته، بل إنك لا تلمس في الكتاب إلا لمساً خفيفاً جداً أن الكاتب يشير إلى ضرورة إصلاح السجون.
ويأخذ بعض النقاد على الرواية أن دستويفسكي لم يرتفع بها إلى مستواه الفني في الأعمال الأخرى، من حيث تصوير الشخصيات وتحليلها، ومع ذلك فإن الكاتب كانت لديه قدرة فنية فائقة على حسن اختيار المواقف التي استخلصها من تجاربه في السجن، فالرواية ليست مجرد سرد للحوادث التي تقع في السجن، أو مذكرات معروضة دون انتقاء، وإنما أراد
الكاتب من خلال ما اختاره من مشاهد أن يؤكد على أن كثيراً من المجرمين لا تخلو نفوسهم من حب الخير.
ولم يعتمد دستويفسكي في روايته هذه على عرض المواقف دون تحليل الأشخاص، فهو ينفذ بخياله إلى ما يدور في أذهانهم، ويقدمهم للقارئ تقديماً سيكولوجياً بارعاً، وتراه ينفد إلى أفئدتهم ويحاول أن يكشف عما تنطوي عليه، و يحلل البواعث التي دفعتهم إلى ارتكاب الآثام.
لقد أظهر دستويفسكي منذ حداثته اهتماماً بالغاً بالجريمة والمجرمين، واستعان بما لديه من ملاحظات دقيقة، أن يدرك وهو في سجن سيبيريا، كثيراً من الحقائق عن طبيعة المجرمين مما كان يصدر عنهم من أقوال وأفعال، فالمجرم يقوم في نفسه صراع بين قوة الإرادة من ناحية، والخضوع والاستسلام من ناحية أخرى، وتتغلب الإرادة على الخضوع فتقع الجريمة، ف«منزل الأموات» وصف دقيق لما يضطرب في نفس المجرم من هواجس وأفكار قبل ارتكاب الجريمة وبعدها، يعرضه دستويفسكي في مهارة فنية فائقة.
(الخليج)