إذا تجاوزنا العدوانات الإسرائيلية المتوالية، على الشعب الفلسطيني، في أرضه وخارجها، فإن هذا العدوان الهمجي الجديد، على قطاع غزّة، هو بمثابة الحرب الإسرائيلية الأولى، بعد حرب العام 1967، التي تتم داخل حدود فلسطين التاريخية.
استراتيجياً، كانت الحلقة الأولى من هذا العدوان العسكري هي إعادة احتلال الجيش الإسرائيلي، للضفة الغربية، قبل نحو ست سنوات، والتي كان مخيم جنين عنواناً لأبرز أشكال مقاومة ذلك الاحتلال فيها، ولكن بلا إرادة سياسية جامعة لفكرة المقاومة، ما أحال السلطة السياسية، في الضفة الغربية، بعد الاحتلال، إلى مجرد إدارة مدنية للسكان، يهيمن عليها الاحتلال. وهو عدوان، واحتلال، جاء بعد أن استهلكت فكرة التسوية، فلسطينياً وفي المنطقة، كل أصحابها، بشخوصهم وخطابهم.
من هنا، وبصرف النظر عن الرؤى السياسية للفصائل الفلسطينية، المتفقة أو المختلفة، فإن طبيعة هذا العدوان، بأهدافه المعلنة منها، والمكتومة، تجاوز المستهدفين سياسياً من أصحابه، وبات يتحرك على المستوى الاستراتيجي، لمصير القضية الفلسطينية، بشكلها الذي يألفه الناس.
فتلك حرب، بلا معايير، عسكرية أو قانونية أو سياسية أو أخلاقية، على آخر اقليم، في فلسطين التاريخية، يرفض القائمون على الأمر فيه، بصرف النظر عن مَن هم، أن يخضعوا أو يستسلموا لمنطق القوة الطاغية والمهيمنة، على الرغم من فداحة الأثمان. وهو أمر يرتّب مجموعة من الحقائق، على مستوى القيمة الاستراتيجية، في مسارات الصراع العربي الإسرائيلي، أو ما تبقى من جوهره وأشكاله.
في الحقيقة الأولى، فإن هذا العدوان يتم صدّه يومياً، بل وساعيّاً، على أرض قطاع غزة، وباقتدار يتجاوز أساطير الحروب الشعبية، وحروب العصابات المألوفة. وبصرف النظر عن الانتماءات السياسية، لهؤلاء المقاومين، ورؤى قادتهم السياسية والفكرية، فإنّ ما يقومون به، وينجحون، حتى الآن، هو أعمق المضامين الفعلية للمقاومات الوطنية المشروعة للشعوب، ضد آخر أشكال الاحتلال والاستعمار الاستيطاني الحديث. فضلاً عن أن طبيعة هذا العدوان الجديد لم تترك أمام الشعب، في قطاع غزة، سوى خيار واحد، وهو الالتفاف حول فكرة ومحاولة صدّ هذا العدوان.
وفي الحقيقة الثانية، فإنّ هذا الخيار الاستراتيجي، للدولة العبرية، لا يعيد الأمور إلى مربعها الأول، سواء فشل العدوان أم نجح، بل ينقل المشروع الصهيوني برمته، إلى جوهر هدفه الأساسي، الممتد جغرافياً على كامل فلسطين التاريخية، وإلى فضائها الجغرافي، بالهيمنة، الممتد من النيل إلى الفرات..! والجديد في الأمر، أن هذا يحرق أمامه كل أشكال التسوية، المتوهمة منها والواقعية، فضلاً عن المقاومات والممانعات السياسية، التي تقنعت بشعارات الرفض الواهي، استعداداً لمراحل متقدمة من التسوية. وبهذا تتكشف المنطقة العربية، سياسياً، بكل مكوناتها الممانعة والموافقة، ولعل ما نراه، ورأيناه خلال الأيام الماضية، من تخبط وضياع وتناقض، دليلاً أولياً على هذا التكشف.
فليس من دون مغزى تركز النشاط الدولي في الثلاثي التاريخي فرنسا، بريطانيا، أميركا. وليس من دون معنى تقاطعت الطرق الدولية والإقليمية في القاهرة. وليس من دون مخاطر، أو انقلابات جذرية، في وجه الإقليم العربي، نشطت السياسة التركية، تلتها الدبلوماسية الإيرانية، إلى درجة أوصلت السيد أردوغان إلى تحسس حدود عثمانية أسلافه..!؟.
هل هناك ما يمكن فعله، غير الذي يجري؟ هل هناك إمكانية لاخراج الأحداث من مجراها، الذي تنساب فيه على هذا النحو؟ بل هل هناك خيار آخر، أمام الناس، غير وضع الرأس على النطع، وانتظار الجلاد؟ بالطبع نعم. غير أن هذا حديث آخر..!.