مع نهاية كل صيف أجد نفسي مضطراً للكتابة عنكم واليكم.. أسجل امتناناً روحياً للتفاصيل الصغيرة التي زيّنت السهرات، لبريق الضحكات التي لوّنت عتمة الروح، لّليل الذي كان يمرّ سريعاً على سكك الكلام والذكريات والأمنيات والشكوى من الاغتراب ومزاج الناس.. لإبريق الشاي الذي لا ينضب، لبخار الأكواب المتصاعد على مهل كغيمة من نعناع.. لعيونكم التي تشتاق البقاء وتخافه، التي تكره الغربة وتطاردها، التي تحسب حساب العمر ولا تسعفه..
في كل إجازة صيفية تزداد مساحة الشيب قليلاً فوق الرؤوس، وتتمدد كثبان السنين تحت العيون.. نشجّع أنفسنا بأن العمر في أوّله، والحلم في أوّله، لكن «ثلج الوقت» الذي يعتلي الرؤوس لا يذوب أبداً مهما اقتربت منه شمس الأمل.. في كل عام تصبح أحلامنا أكثر تعقيداً، وأقل تحققاً، كلما كبر الأولاد وثقلت أوزانهم و مسؤولياتهم نرمي أكياس الرمل عن جانبي منطاد الطموح كي لا نسقط.. نفكّر بهم أكثر مما نفكّر بأنفسنا وعندما تحلُك المسائل ولا نملك لها الحلول.. يذيبها الليل وإبريق الشاي فيعيدنا الى مراهقتنا وشبابنا ولمّتنا فيستحيل أولادنا فراشاً حولنا.. يسعدون بتوهّج بقائنا..
عندما يلملم آب أيامه كما يلملم صاحب الدكان أغراضه آخر النهار.. تنقص أصابعي كل ليلة إصبعا.. أنا أريدها عشرة كاملة، عشرة دائمة، عشرة حالمة، عشرة لا تنتهي، لكنها تنقص، وتذوب، وتغيب، وتنتهي.. في العشر الأواخر من آب، أقول لو أن لليل «كفّة» كما الثياب، فأفكّ عراها وأوسعها لتطول أكثر، لو أن النعاس سرب حمام لحملت عصاي وطردته عن العيون.. لا أريد للأولاد أن يخّزنوا ألعابهم من جديد في الحقائب المستطيلة، لا أريدهم أن يجمعوا قمصانهم عن مناشر الغسيل، لا أريد للياسمين أن تعطش لسماع أصواتهم على البلكونة القريبة، لا أريد للزعتر أن يغترب أكثر لا أريده أن يفقد خضرته ورائحته وبريّته التي اعتادها.. لا أريدهم أن يعودوا إلى التعليب الأسمنتي فيتحوّلون الى كائنات سكنية، لا أريدهم أن يأكلوا الدرّاق في غير موسمه، أو يألفوا التين من غير ندى، لا أريدهم أن يحتفظوا برسائل مكتوبة ورسومات مهداة للذكرى لا أريدهم ان يتركوا أحذيتهم على حافة النافذة أو ينسوا حلواهم على آخر درجتين من البيت، أريدهم أن يشعلوا سراج العمر هنا لتضيء الحياة..
مع نهاية كل صيف أجد نفسي دون ترتيب مسبق أكتب عنكم واليكم.. أقول ما لم استطع قوله لكم بين جمل الكلام في ليل الإجازة الطويل.. ربما كي لا ينبت الحزن بين سنابل الشوق، اكتب إليكم بعد أن يبتعد عني ظل أجسادكم خلف بوابات المطارات وعلى أدراج المسافرين، عندما تُجرّ الحقائب على الأرض الملساء ليكون لها صوت الطائرات المحلّقة.. أكتب لكم وعنكم.. عندما أفشل كل عام.. أن أغلي»ركوة قهوة» صبيحة السفر نشربها سوية قبل المغادرة.. فتأتي سيارة المطار قبل أن تغلي الماء.. يداهمنا الوداع.. وأطفئ النار عن القهوة.. دون أن يشربها أحد..
أكتب لكم وعنكم عندما أفشل في كل عام أن أقول لكم: في غيابكم صار العمر أقصر من ركوة قهوة..
الرأي