كان لونه بنياً، ربما ليتناسب مع بنطلون المدرسة الكاكي، اكبر من قدمي الصغيرة بنمرة، لا بأس، حشوه بقطعة قماش، شدوا الرباط قليلا، اها :كيف الآن؟ يسألني والدي.»تمام على القد».وهل كنت أجرؤ على قول غير ذلك!
كان ذلك حذاء العيد.طرت فرحا به.خبأته قرب فرشتي.نعم فرشتي، لم يكن ثمة سرير، ليس فقط لعدم توفر ثمنه بل ايضا لان الغرفة لا تتسع لستة اسرّة تكفي عدد افراد العائلة الستة. الفرشات تُطوى صباحاً، توضع فوق بعضهاعلى مستطيل خشبي كانوا يسمونه دوشك، لا ادري اصل الكلمة لكن ثمة ما يوحي انها تركية علقت بنا كما غيرها حصيلة اربعة قرون من ذوبان الهوية العربية في العثمانية. كان البيت «الغرفة» يتسع لمكان للاكل ولمكان للجلوس لافراد العائلة وحين يأتي ضيوف «يا اولاد اطلعوا العبوا برّه»، وبرّه تعني الحوش او الحارة، خلال لحظات تصبح الغرفة صالون ضيوف بدون كنبايات وتصبح الحارة بيتاً، هذا في الشتاء اما في الصيف فيصبح الوضع معكوسا: يا اولاد فوتوا جوة. يجلس الضيوف في الحوش المزنر بحزام اخضر من الشجر بعرض ثلاثين سنتمترا،جوري وقرنفل ونعنع وبقدونس، دالية تغطي العريشة، في زاوية زيتونة وفي زاوية اخرى توتة، يطول السهر، تختلط رائحة الشاي بالميرمية برائحة الورد،ورائحة الكلام بعبق ذكريات تهب من البيارة التي تشرب من نهر العوجا وتصب في البحر الابيض المتوسط.
كان الكبار يتحدثون عن «البلاد» التي طردوا منها، احتلها اليهود في غفلة من الزمن وغفلة من العرب، كانوا يضحكون، فالضحك افضل وسيلة لقهر الحزن :هل تذكر يا خليل عندما كنا ننزل الى يافا، نحضر فيلما لعبد الوهاب وليلى مراد ونعود ليلا مشيا بين البيارات نغني باعلى صوتنا اغاني الفيلم، وحين نتعب نقف تحت شجرة برتقال نقطف ونعصر في افواهنا عشر عشرين ثلاثين حبة ثم نواصل الغناء والمشي الى البيت ؟! ألم تكونوا تشتروا البرتقال ويضعه البائع في كيس بلاستيك مثل هذه الايام ؟يقول احدهم من الجيل الثاني للنكبة .أبدااااا يقول والدي .كان اليافاويون والغزيون في العشرينيات والثلاثينيات يصدرون البرتقال في «الصحاحير» الخشبية الى ايطاليا وفرنسا ودول اوروبية.اما الناس فكانت كل البيارات مفتوحة لهم ان «كلوا من طيبات ما رزقناكم».
هل صحيح انكم بعتم ارضكم لليهود؟ يصرخ كبير الجالسين بغضب:احنااااااااا؟؟ ولك لو بعناها ما كان حالنا هالحال.اذن من باع ؟ يهدأ قليلا ويقول :ارجع للكتب وشوف مين باع،اغلب الذين باعوا عائلات سورية و لبنانية وفلسطينية اقطاعية كانت مرتبطة بالعثمانيين وبعدهم الانجليز.(الاسماء موجودة في غوغل لمن يريد ان يتأكد). يسأل شاب :ما دخل اللبنانيين و السوريين بفلسطين؟ يجيبه احدهم : يا ابني،قبل سايكس بيكو كنا كلنا شوام وبلادنا التي هي الآن سوريا و لبنان و فلسطين و شرق الاردن كانت كلها «بلاد الشام».لا حدود ولا جوازات سفر ولا عداوات ولا نعرات ولا فتن ولا..شعارات الوحدة..كنا موحدين!
كنت فتى في مقتبل الوعي،اصغي لما كان يقول الكبار ..احفظ واتحسس كل عيد ذاك الحذاء البني الاول الذي اشتراه لي ابي،انه الحذاء الذي اوصلني الى باريس ولندن وبرلين،انه نفسه الذي دست فيه على صورة بوش على مدخل فندق الرشيد في بغداد، وهو نفسه الذي مشيت فيه على رمال النفط و شواطىء اللاذقية و طرطوس وغوطة دمشق، احتفظ به في الذاكرة حتى تعود الشام شاما وبغداد بغداد و..أدوس به على بقايا الصهاينة في فلسطين !
الدستور