مهازل التأريخ ومآسي الشعوب
د. عاكف الزعبي
05-09-2017 03:40 PM
حتى نهاية القرن التاسع عشر ظل معظم تاريخ الامم والشعوب يكتب بأيدي اصحاب السلطة المهيمنة ووفقاً لآرائهم.
لا مجال للشعوب ان تفكر ولا حول لها ان تكتب . ما عليها الا ان تقرأ ان قدر لها ان تبلغ سن القراءة ما كتب لها نيابة عنها. وظل معظم التاريخ يتلى علينا حاشداً بأخبار وانجازات الأباطرة والامراء والقادة خال من احوال الناس الذين قادتهم اقدارهم لان تتفتح عيونهم على الكد والشقاء او الرق والعبودية ليكون مصيرهم المكابدة تحت وصاية ديكتاتور يمثل ظل الله في الارض .
احتفى المؤرخون واحتفت معهم ولا تزال لشديد الاسف الشعوب المغيبة والمجهلة بآثار وفتوحات الأباطرة والامراء والقادة واعتبروها من مفاخر حضاراتهم ومفاخر مجدهم الغابر التليد ، وما سألوا عن عذابات من استعبدوا فسخروا في بناء القناطر والقلاع والمسارح والكنائس والمساجد ، ولا اهتموا بدماء الجند التي اريقت على مذبح مجد الزعماء الفاتحين الذين يرفلون بالحرائر في قصورهم على فراشهم الوثير وموائدهم الزاخرة وبين جواريهم بانتظار عودة جيوشهم بالكنوز والسبايا والعبيد. ولم يخجلوا من غنائم جيوشهم المجللة بعار الاموال المنهوبة التي اغتصبت من اصحابها قهراً وزوراً ، ومخازي السبايا من النساء اللواتي اختطفن من بين اطفالهن وبيوت اسرهن واحضان ازواجهن ليصبحن جواري يتنعم بجاملهن واصغرهن سناً مغتصبون من اصحاب السلطان وقادة الجند ورقيقاً يتربحون من بيعهن بسوق النخاسة، ولم يشعروا بالخجل من مصير الرجال الاحرار الذين اقتلعوهم من بلادهم واقتيدوا بعيداً عنها ليتحولوا الى عبيد مجردين من حريتهم وكرامتهم وانسانيتهم .
نحو سبعة الاف عام من حياة المجتمعات البشرية قبل الميلاد على الا قل ، تبعها نحو ثمانية عشر قرناً بعد الميلاد وكتبة التاريخ ماضون على نهجهم يؤرخون للطبقة الحاكمة والساده والنبلاء وقادة الجيوش يمجدون اعمالهم دونما أي اعتبار لباقي طبقات الشعب من القائمين على البناء وادامة الحياه من العمال والزراع والحرفيين والتجار. ويعظمون فتوحاتهم دونما اي اكتراث بشقاء خلق الله في البلاد التي ابتليت بتلك الفتوحات. ومن عجب ان ظلت اغلب الشعوب حتى التاريخ المعاصر لا ترى في التاريخ او لا تعرف عنه
غير ما كتبه هؤلاء المؤرخون من مختصرات في تعظيم سير السلاطين وقادة الجيوش على الرغم من كل ما ينطوي عليه من نظرة دونية ظالمة لتاريخ اسلافهم الاوائل، وافتئات على حق الشعوب الطبيعي في المعرفة.
تباعاً صحا العالم متأخراً ومتباطئاً على غفلته عن عسف المؤرخين في نظرتهم لتاريخ البشرية بعد طول اختصار له داخل قصور المترفين من طبقة السلطة وبوحي من فكرها المهيمن بأدوات القوة الغاشمة. قصب السبق في الصحو كان للإنجليز وعلى مرحلتين في 1225م بإعلان الماجناكارتا وثيقة الحقوق الكبرى بعد ثورة البرلمانيين، ثم اقرار الوثيقة في 1297م من قبل البرلمان. وتبع الالمان الانجليز بقيام الحركة البروتستانتية عام 1517 بقيادة القس مارتن لوثر التي نسفت تحالف الباباوات والأباطرة فتم الغاء سطوة الكنيسة والغي معها اسباغ ارادة الاله على حكم الأباطرة. وعاد الانجليز مرة ثالثه بتحويل الماجناكارتا من قبل البرلمان الى قانون في 1689 بعد ثورة الانجليز الكبرى بعام واحد .
ثم عاد الانجليز البروتستانت للمشهد مرة ثالثه بثورتهم الكبرى المسماة بالمجيدة على حكامهم عام 1688. لتظهر بعد ذلك الثورتان الأمريكية والفرنسية نهاية القرن الثامن عشر ايذاناً ببروز تاريخ العقود الاجتماعية كشرعية للحكم وما انبثق عنها مما يعرف بحركة الدسترة. وما ان انتصف القرن التاسع عشر حتى تبلور الفكر الليبرالي الغربي وانفتح امام الغرب والعالم طريق الديمقراطيات الغربية وصار للشعوب قولها في كتابة تاريخها.
ومع اطلالة القرن العشرين كان علم الاجتماع وعلماؤه من الرواد يزرعون حياة الشعوب معالم بارزة في كتب التاريخ لم يعد ممكناً تجاهلها .