منذ ثلاثينيات القرن المنصرم بدأ العلم الحديث باستكشاف أغوار النفس البشرية من خلال أبحاث تجريبية مختبرية. وتوصل إلى نتائج غريبة عن الكثير مما نألفه، لكنها تمس حياتنا اليومية مساسا مباشرا قد يتقبلها البعض منا إذا كان إطارهم الفكري مرنا إلى الحد الذي يسمح لهم بذلك، وقد لا يتقبله البعض الآخر بحكم رفض إطارهم الفكري لما هو خارج نطاقه.
ومن أهم مقررات العلم الحديث في هذا المجال أن للإنسان عقل باطني. و "العقل الباطني" مصطلح مجازي يقصد به التعبير عما يجري في النفس البشرية من مجريات لا تدخل في مجال العقل الظاهري.
ومن الحقائق العلمية التي توصلت إليها الأبحاث النفسية الحديثة، أن الإيحاءات التي تغرسها الأم في عقل ابنها الباطني من حيث لا تدري تتحول فيما بعد إلى حوافز نفسية لاشعورية تسيره في حياته من حيث لا يعلم إذ أنها تلعب دورا رئيسيا في تشكيل إطاره الفكري الذي سينظر ابنها من خلاله إلى الحياة لا شعوريا.
فالأم التي تقول لابنها مثلا لا حصرا: "يا غبي! لا تفهم ولن تفهم! لن يكون لك خير في المستقبل! لماذا ينجح فلان وأنت تفشل في هذا أو ذاك؟! ... إلخ" توحي له بمثل هذه الكلمات إيحاءات نفسية سلبية تتغلغل في أعماق نفسه لتتجذر هناك، فتنمو مع مرور الزمن لتتحول إلى قوى نفسية سلبية تقوده الى الفشل في حياته العملية، والعاطفية حتى!
فالأم بهذه الكلمات تكون قد رسمت في ذهن ابنها صورة قاتمة عن النجاح في الحياة، وهدمت جزءا لا بأس به من ثقته
بنفسه. والثقة بالنفس من أهم العوامل التي تساعد الإنسان على استثمار قواه النفسية استثمارا صحيحا.
بدلا من ذلك تنصح الدراسات والأبحاث النفسية المعاصرة الأم بأن تعرف أولا قدرات ابنها وميوله، وأن تستكشف مواهبه إذا توفرت لديه، وبناء عليه ترسم له مستقبله بإيحاءات إيجابية مثل: أنت رسام مبدع! أنت كاتب موهوب! ستكون ذات يوم نحاتا رائعا! ستكون معلما قديرا!
فالأم بمثل هذه الكلمات تكون قد غرست في أعماق اللاشعور لدى ابنها بذور النجاح والتفاؤل والنظرة الإيجابية للحياة. والأهم من ذلك أنها عززت ثقته بنفسه، فيمسي ذا عقيدة جازمة خالية من اي شك بقدرته على المضي قدما في حياته يحقق بها طموحاته وأحلامه!
اعتادت إحدى الأمهات أن تلقن في كل صباح كل واحد من أبنائها بأن يردد طيلة النهار بينه وبين نفسه هذه الكلمات "انا حرٌ! انا شجاع! سأقول الحقيقة دائما! هكذا يا أبنائي تتعلمون السيطرة على ذواتكم". إن الإيحاءات التي غرستها هذه الأم في وجدان أبنائها بمثل هذه الكلمات جعلت من ابنها غاندي أعظم قائد للهند!
وفي مجتمعنا مثل شعبي يتوافق إلى حد بعيد مع نتائج هذه الدراسات والأبحاث النفسية، يقول المثل: "الابن مثل ما ربيتيه،
والزوج مثل ما عودتيه". وهو مثل صحيح إلى حد بعيد لكنه ليس صحيحا بالمطلق. والتربية والتعويد بالنسبة لي وجهان لشيء واحد، ألا وهو: الإيحاءات.
وفي تراثنا الشعري، لدينا بيت شعر سطره شاعر النيل بأحرف علمانية على صفحات نهر النيل:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
فهل أدركنا الآن كنه الحقيقة العلمية التي نادى بها الشاعر من خلال بوقه الأدبي قبل ثلاثينيات القرن المنصرم؟