كل يغني على ليلاه ويروي أحداث الرابية بحسب موقعه من الحدث . لا وجود للشهود الموضوعيين ، ولاشيء إلا صورة ضبابية ومزيد من وجهات النظر المتطرفة ، التي يشتد فيها الغلو والإنكار ، فتؤدي إلى شيء واحد لا غير .. فك اللحمة وفصل الشارع عن الموقف الرسمي عبر مساحة من الشكوك والاتهامات المتبادلة . لكن الأهم من بحثنا عن طبيعة الذي حدث بالضبط ، وان كان هذا مهما جدا وتترتب بناء عليه حقوق شخصية للذين شملتهم دائرة العنف ، الأهم من ذلك هو أن نسأل لماذا حدث هذا الصدام ؟ وعند أي مرحلة من التطورات الداخلية المرتبطة بالعدوان على غزة كانت أحداث الرابية ؟
مع بشاعة العدوان الهمجي على قطاع غزة ، وتفنن الصهاينة في أساليب القتل والتدمير مستخدمين آلة البطش الرهيبة بأسلحتها الفتاكة وقنابلها المحرمة دوليا ، الآلة التي لا تفرق بين طفل وشيخ أو رجل وامرأة ، ومع ازدياد الاستنكار العالمي – على المستوى الشعبي بالطبع – لمحرقة القرن الحادي والعشرين ، وشعور الصهاينة بالمأزق الحقيقي الذي وضعوا أنفسهم فيه أمام صمود المقاومة التي أثبتت أنها قد خططت للمعركة جيدا واستطاعت أن تفاجئ المعتدين بتكتيكات حربية غير متوقعة وصواريخ قادرة على ضرب العمق الإسرائيلي حتى مدى خمسين كيلو مترا ، وأسلحة أخرى لم يحسب حسابها الإسرائيليون مثل بعض أنواع القذائف القادرة على أن تطال المروحيات وتؤدي شكلا من أشكال الدفاع الجوي . في خضم هذا كله كانت الفورة الشعبية في الأردن على أشدها ، وكان منظر الدماء وأشلاء القتلى وجثث الأطفال فوق ما يمكن أن يتحمله إنسان صاحب ضمير حي يسكن أقصى بقاع الأرض ، فما بالكم بالأردنيين وهم أشقاء الشعب الفلسطيني دما وروحا وترابا ، وبينهم من وشائج الرحم والقربى والمصير ما يجعل الوجع واحدا والجرح نازفا في الضفتين .. هنا كانت إسرائيل تحس بأنها تخسر معركتها سياسيا وإنسانيا ، وتفقد مؤيديها قبل معارضيها وتخضع لضغوط شتى ، أهمها وعلى رأسها التلميحات الأردنية بإمكانية إعادة النظر بالعلاقات مع إسرائيل .
هذه التلميحات فهمها البعض على أنها وسيلة ضغط لا أكثر لجأت إليها الحكومة الأردنية لثني إسرائيل عن عدوانها ، وفهمها آخرون على أنها تهديدات جدية وموقف صارم يتخذه الأردن تجاه العدوان . وفي كلا الحالتين كان ما يلفت النظر هو التلاحم بين الموقفين الرسمي والشعبي ، في سابقة أنذرت بمجهول ينتظر هذه العلاقات . خصوصا إذا علمنا أن هذا التلاحم والضغط الشعبي هو المبرر الوحيد الذي يمكّن الأردن من اتخاذ قرار سيادي كهذا القرار ، أو على الأقل أن يستخدمه ورقة ضغط يلوح بها متى شاء . فلا موازين القوى المرحلية ، ولا العمق العربي ، ولا غيرهما يستطيع أن يمنح الأردن غطاء لاتخاذ قرار من هذا النوع . فقط الجبهة الداخلية الموحدة النابضة على قلب رجل واحد ، كانت الورقة الوحيدة التي تمتلكها الحكومة نحو مزيد من الخطوات الجريئة في هذا الخصوص .
عند هذه المرحلة كان لا بد من العبث وضرب الجبهة الداخلية ، من أجل سلب الحكومة الأردنية خياراتها وفصلها عن الشارع الملتحم معها ، وتخفيف الضغط على إسرائيل بما يمكنها من الاستمرار في عدوانها وتنفيذ مخططاتها . وقد بدأ ذلك منذ فترة على شبكة الانترنت بتوزيع صور لمتظاهرين يحرقون العلم الأردني ، وادعى ناشرو الصور أن عملية الحرق هذه تمت خلال مظاهرات داخل الأردن ، ليتضح فيما بعد أن هذه الصور مأخوذة من مظاهرات جرت في العراق قبل عدة سنوات ، يوم تظاهر البعض هناك ضد الأردن بأهداف ودوافع مذهبية . وأمثلة هذا كثير مما يتم تداوله وما تلوكه بعض الألسنة ، دون أن تدري هذه الألسنة ما تسببه إثارة النعرات من فرقة وشتات في مرحلة نحن أحوج ما نكون خلالها إلى التضامن .
ثم كانت مظاهرة الرابية ، وهي التعبير الشعبي الأقل تنظيما والعفوي بكل المقاييس . نقول عفويا مقارنة بمهرجانات تضامنية أخرى كالتي جرت في ستاد عمان أو في طبربور ، مهرجانات أشرفت عليها أحزاب وجهات مرخصة كانت قادرة على ضبط النظام وعلى التعبير عن انفعالاتها بشكل حضاري . أما الرابية فقد كانت عفوية تماما وبالتالي كانت مجالا خصبا للعابثين والباحثين عن قلاقل ومصادمات تخرج بالمظاهرة عن أهدافها ، وتمكن هؤلاء العابثين من اختلاق صدام بين الحكومة والمتظاهرين ، تحقيقا لأهداف خفية .
هنا يبرز السؤال الكبير : لماذا وقعت قوات الدرك في الفخ ؟ ومن هو المسئول عن قرار أهوج باستخدام العنف والإفراط فيه ضد المتظاهرين ؟ وهل عبث العابثون بالطرفين فنجحت مكيدتهم وحققوا أغراضهم ؟
هناك الكثير من الأسئلة التي لا بد من الإجابة عليها بكل هدوء وتوازن ، إذا أردنا أن نحافظ على تماسكنا ونحقق كشعب انجازا من نوع طرد السفير الإسرائيلي من ربوع بلدنا الحبيب . إذا أردنا أن نطهر هذا البلد فعلينا أن نطهر أنفسنا أولا كأفراد ونرمي وراء ظهورنا كل نعراتنا وأسباب فرقتنا وشتاتنا ، عندها نستحق الانجاز ونتمكن من دعم بلدنا وأخوتنا على أرض فلسطين الطاهرة .
Samhm111@hotmail.com