لؤي صبح .. من أين تنبثق الدموع؟
د. محمد أبو رمان
13-01-2009 04:24 PM
من منّا لم يرَ لؤي صبح، الطفل الغزي، الذي ذابت عيناه، بنار أسلحة "محرمة" في عرف الإنسانية، و"محللة" لدى الإسرائيليين والحكومة الأميركية؟!
لؤي ذو العشر سنوات "حالة" من مئات من الأطفال الفلسطينيين، لا يعلم إلاّ الله كيف قتُلوا ودُفنوا تحت الأنقاض، ولا يعلم إلاّ الله كم تحمّلوا من الآلام، والآهات.
إذا أُصيب الطفل بألم أو جزع يلجأ إلى أمه أو أبيه. لكنّ الأطفال الغزيين الذين كانوا يبكون، خلال أربعة أيام بلا طعام ولا شراب، بجانب جثث أمهاتهم، إلى من كانوا يلجأون! وكم مرّة أمسكوا بأطراف ملابس جثث أهاليهم ليهوّنوا عليهم شدة الجزع والألم؟
حتى مساء أمس، ناهز عدد الشهداء قرابة 900، بينهم 250 طفلا، فيما تجاوز عدد الجرحى أربعة آلاف، بالتأكيد نسبة الأطفال بينهم كبيرة. لكن كم نسبة الأطفال الذين أصيبوا بأمراض نفسية؟
سألت الطبيب النفسي، د. محمد الحباشنة، عن لؤي أولاً، كيف يفسر أنّ هذا الطفل كان يتحدث بهدوء وبأفكار مرتبة، عما حدث له ولأهله، فيما عيناه ذائبتان في لجة الظلام.
ومع هول صدمة المشهد، فإنّ صدمة جواب الطبيب النفسي كانت أكبر. يقول د. الحباشنة: "الأمر ليس طبيعياً، فالأصل أنّ الطفل عند الصدمة الأولى يبدأ بالصراخ والألم. أمّا لؤي فلم يمر بمرحلة الصدمة، وهي حالة أخطر بكثير. فمع وقع الأزمة المحيطة وآثارها وهول المشهد، أصيب بتبلد المشاعر، وهي حالة نفسية لها نتائجها النفسية الخطيرة على المدى البعيد".
ويرى الحباشنة أنّ قرابة 70% من أطفال غزة اليوم يعانون من مرحلة "ما بعد الصدمة"، وهي مرض عصابي سيستمر معهم إلى سنوات طويلة، وسينعكس على حياتهم ومشاعرهم بصورة كبيرة. ويصل د. الحباشنة إلى أنّ جيل هؤلاء الأطفال جيل "مليء بالصدمات".
ويؤكد ذلك، الناطق باسم الأونروا، باسم مشعشع، الذي يفيد بأنه في العام 2006، أي قبل مرحلة الحصار وقبل العدوان، تم عقد امتحان الكفاءة المشترك في قطاع غزة لطلبة المدارس، وكانت النتيجة أن طلبة الصفوف الرابع والسادس والثامن حصلوا على نتيجة صفر، ما يعده "مؤشرا كبيرا وترجمة لما يعانيه الطفل من عدم الشعور بالأمان، وضعف التركيز وعدم استيعاب الدرس وعدم التمكن من النوم".
على الطرف الآخر، يرى الحباشنة "أنّ من يشاهد هذه الصور عبر التلفاز سيصاب بآثار نفسية عديدة من توتر شديد واضطراب، وبخاصة الأطفال، وستستمر هذه الأزمة إلى سنوات".
الطفلة نوران الملكاوي علقت على مقال الزميل موسى برهومة أمس "متحف الأمل والألم" قائلة: ".. لم أتجاوز السبع سنوات، ولكنني أقول لكم ولكل أطفال العالم: أطفال غزة يظهرون كل يوم في منامي، وأرى أجسادهم المقطعة المتناثرة في كل مكان".
في الحقيقة لم أتحدث مع د. الحباشنة لأسأل عن حالة لؤي، بل عمّا حطمته في داخلي، إن كان هنالك ما بقي من دون تحطيم. وأعترف بأنني أصبحت مريضاً نفسياً بامتياز! لا أفكر بالانتقام كآلاف الشباب العرب والمسلمين، كل ما أعرفه أنني أضع علامة استفهام كبيرة على معنى الحياة وجدواها وعلى مستقبلنا؟!
فقدت، كغيري، معنى الشعور بالأمن، حتى وأنا في منزلي. فصور آلة الدمار والحرق الإسرائيلية استباحت مشاعرنا كافة، وأنهت المسافة بين الحياة والموت والألم.
منذ الساعات الأولى للعدوان الإسرائيلي على غزة، أقوم بالاطمئنان، كل ساعة، على ابني الصغير النائم. لكنني نسيت أن أسأل د. حباشنة عن طبيعة هذا المرض؟!
إذا كان هذا هدف الحرب النفسية الإسرائيلية؟! فأعترف للبربرية العدوانية بنجاح باهر، وبإنجاز تاريخي. لكن لا أعرف أي أمن سيحظى به الإسرائيليون، بعد اليوم، على جثث أطفال غزة وآلامهم، وعلى أشلاء نفسية للشعوب العربية التي تجاورهم؟
لا أملك ادعاء التماسك ولا الثقة بالنصر. ربما يملكه المقاومون الذين يدافعون عما تبقى من كرامتنا النازفة في سبات الجيوش العربية التي تستنزف من موازنات الشعوب عشرات البلايين سنوياً!
لؤي نقل أمس للعلاج في المملكة العربية السعودية. فكم كنتُ أتمنى أن أقبّل عينيه المحروقتين، وأن أحضنه وأن أقنعه بالبكاء، لعلّ بكاءه يعيد إلينا الشعور بالحياة، بعد أن أصبحنا مجرد "حطام أرواح"..
m.aburumman@alghad.jo
عن (الغد)