البشير: عمّان مدينة مستدامة .. إدارة النفايات وكلفة "النبش"*
المهندس عامر البشير
31-08-2017 12:51 AM
نتحدثُ مجدداً عن عمّان... تلك التي في القلوب... ولكن من زاويةٍ جديدةٍ لا تقلّ أهميةً وخطورةً عن تحديات قطاع النقل العام.
على مدى السنوات الاخيرة، شهدَ نظامُ إدارة النفايات في مدينةِ عمّان، والبُنية التحتية التابعة له نمواً عشوائياً بدلاً من النموِّ المُمنهج المبنيّ على التخطيطِ الشمولي والمُتكامل، وعلى الرغم من فعاليةِ جمع النفايات في مكانِ تولّدها واختفائها عن الأبصار " المعيار الوحيد المعمول به للنجاح "، إلاّ أنه توجد فجواتٌ كبيرةٌ في البُنية التحتيةِ والعمليات ، وهناك حاجةٌ لتطويرِ خطةٍ رئيسيةٍ مُتكاملة لإدارة النفايات تعتمدُ على نهجِ دورة الحياة ومعرفةِ السلوك المجتمعي، أو حتى غياب البرامج الموجهة لتنظيم ذلك، لتحقيقِ أهدافٍ شاملةٍ والرؤية المستقبلية للوضعِ البيئي في مدينةِ عمّان.
هنا وبصراحة، يستندُ منطق التراجع بالعمليات على ذرائع لها علاقة بنقصِ الإمكانات والمعدات والأجهزة وتكرار شكوى الإدارات المتوسطة المعنية بقطاع البيئة في إبلاغ الإدارة العليا بوجود نقصٍ في البُنية التحتية الداعمة لقطاعِ البيئة، الذي يتطلّبُ زيادةَ الاستثمار الرأسمالي وتخصيص الأموال لقطاعِ البيئة وتكرار طلب شراء غير مبرر لكابسات وطاحنات لتعزيزِ أسطول جمع النفايات، الذي - ومن باب تجربتي ومعرفتي السابقة – يعملُ بفعالية ما بين 10% - 20% من طاقته التشغيلية، ومحسوباً لرحلةٍ واحدة فقط للمركبة في اليوم تصلُ فيها إلى المحطات التحويلية، التي أنشأتها الأمانة على أطراف المدينة، وليس إلى مكبّات النفايات الموجودة خارج المدينة، بهدفِ تقليلِ كلف العمالة والتشغيل وتقصيرِ مسارات وعدد رحلات مركبات الجمع، وتخفيض فاتورة الطاقة.
يحصلُ ذلك في ظلّ الاستثمار الرأسمالي والتشغيلي لمدينة عمّان الذي يفوق 3-4 أضعاف ما استثمرته مدينة بنفس الظروف وعدد السكان، كمدينة أبو ظبي من ناحيةِ عدد الآليات وحجمِ العمالة وكلف التشغيل، كما أنّ نسبةَ الفعالية السابقة غائبةٌ عن معرفة صاحبِ القرار نتيجةَ غياب الأرشيف المؤسسي الذي يوثّق ذلك، وغياب المنهج العلمي في العمل، أو حجّة التوسع في توفير أعدادٍ إضافيةٍ من الحاويات المعدنية التي أصبحت أحدَ الأسباب الرئيسية في تلويثِ المدنية؛ لما يتناثر حولها من مُخلّفات بيئية نتيجة تأخّر رفعِ النفايات منها، وعدم انتظام أوقات إخراج النفايات من المنازل أو من الفعاليات المختلفة، من مكاتب ومطاعم ومحلات تجارية وأصحاب مهن، حيث أصبحت عرضةً للعبثِ من جامعي النفايات ومن النبّاشين الباحثين عن موادٍ تدخلُ في صناعة التدوير، الذي لم يسجّل لتاريخه أيّ جهدٍ رسميّ يذكر في هذا المجال.
التفكير الذرائعي في هذا المجال غير مُنتج بسبب ضرورةِ وجود معادلة تناسب بين الطاقة الاستيعابية للحاويات المعدنية الموزّعة عشوائياً في المدينة، وعمليات رفع النفايات، فكلّما كان نشاطُ قطاع البيئة في الجمع أكثر فعالية، كلما كان حجم النفايات الموجودة في الحاويات وحاجات المدينة للحاويات أقل، ضمن علاقةٍ عكسية.
وبالرغم أنّ الاستثمار في البُنية التحتية في أسطول جمع النفايات أكثر من خمسةِ أضعاف الحاجة الفعلية على الأقل حسب رأيي. إلاّ أنّ الواقعَ والمشاهدات تؤكّدُ أنّ حجمَ النفايات في الحاويات يؤكدُ وجودَ قصورٍ في عمليات الجمع، وأنّ انتشارَ النفايات حول الحاويات يؤكدُ قصورَ التشريعات التي تمنحُ نطاقاً واسعاً من العابثين مرونةً للعبثِ في الحاويات، وتؤكدُ أيضاً غيابَ الوعي المُجتمعي بأهمية إخراج النفايات في ساعاتٍ محددة، لتتناسبَ مع ساعاتِ مرور المركبات الذي يحولُ دون تأخّر جمعها من لحظةِ إخراجها من المنازل أو من عند أصحاب المهن، ويمتدُّ ذلك أحياناً إلى أجزاءٍ طويلةٍ من النهار أو الليل الذي يترك المجال للنبّاشين لممارسات سلبية، أدت إلى إحراج قطاعٍ واسع من القائمين على أمانة عمّان في فترات سابقة كانوا في غنى عنه.
يتجاوز حجم النفايات مليون وربع الطن سنوياً وبكلفة تزيد عن 75 مليون دينار، وهذه المُعطيات الرقمية تؤكدُ لنا أهميةَ هذا الملف، وحجم استنزاف واردات الأمانة، بحيث من المستحيل الاستمرار في نفسِ النهج القديم وتوقع نفس النتائج، واعتماد معايير تقييم مختلفة، وينبغي أن لا يكون الجهدُ موسمياً، والعبرة في الثبات والاستدامة وانخفاض الكلف التشغيلية.
وهذا يقودنا للأهم في مسألة "التفكير البيئي"، فالقطاعُ هنا ينبغي أن يتحوّلَ من مربّع الكلفةِ إلى مربّع الربحية، وذلك غير ممكن بدون استراتيجياتٍ شموليةٍ مُنسقةٍ نبرّر غيابَها بالحديث عن المُخصصات المالية أو نقصِ الاستثمار الرأسمالي.
وغير ممكن أيضاً بدون نطاق توعوي مجتمعي مُنظم وبرامج موجّهة لسيداتِ المنازل لإخراج النفايات في ساعاتٍ مُحددة، بالتنسيق مع أوقات رفع النفايات من الحاويات، وتحميل جزء من المسؤوليات للأهالي بالتوازي مع إبرام شراكةٍ مع القطاع الخاص؛ للاستفادة من تدويرِ النفايات وفرزها في محطات التحويل وليس في المنازل كمرحلة أولى، الأمرُ الذي سيُمكّن الأمانةَ من تحويلِ مراكز الكلف إلى مراكز ربحية كما أسلفنا سابقاً.
مهمٌ جداً أيضاً تطويرُ أطرٍ وأنظمةٍ رسميةٍ وأدوات تمكّن صناعة التدوير؛ لأنّ الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية الموجودة في المناطق الأكثر فقراً قد نمَت في ظلّ الغياب الرسمي، وبرزت أهمية إعادة التدوير اقتصادياً، لتحسين دخل فئات أقل حظاً، فالحاجة أدت إلى نموّ قطاعٍ غير رسمي مُكوّن من الجامعين والنباشين المحليين للنفايات خلال السنوات العشرين الماضية، والذي يفوقُ عددهم المئات، وتوفّر لهم مُنتج ذو قيمة مقبولةً، حيث يتمُّ جمع هذه المواد الصلبة مباشرة من حاوياتِ النفايات الموزعة على كامل حدود المدينة، ويتم فرزها فيما بعد ضمن اتفاقٍ تعاقديّ ما بين النبّاشين ومقاولي جمع الموادِ القابلة للتدوير بالكيلو.
على كلّ منّا دورٌ في هذا الإطار على أن تضعَ السلطات المُختصة سياقاً استراتيجياً في التفكير، يشملُ الجميع وبتقاسمُ الأدوار ويحدّدُ الواجبات من أجلِ الحفاظ على البيئة واستدامتها للأجيال القادمة، يتم إشراك سيدات المنازل وأئمة المساجد، والاستفادة من البرامج الصباحية في المدارس، وبرامج جمعيات البيئة، والمنظمات غير الحكومية، وبالشراكة مع القطاعِ الخاص بمبادرات المسؤولية الاجتماعية، والاستفادة من أدوات التواصل الاجتماعي، والبُنية التحتية الإعلامية الموجودة في وطننا، من إلكترونية ومطبوعة ومرئية ومسموعة رسمية وغير رسمية، وإشراك لجان الأحياء لتحقيق ذلك.
وفي السياق قد نتّفق بأهمية إنشاء صندوقٍ خاص لموظفي قطاع البيئة في أمانة عمّان من عمّال الوطن ومراقبي الأحياء، تتوفّر له الإمكانيات المادية لتوفير السلف، وتوفير المساعدات المالية العاجلة للمرضى منهم ولعائلات من يتوفّى منهم وهم على رأس عملهم، وتوفير الدعم النفسي والمهني لهم ولأسرهم على غرار الموجود في نقابة المهندسين، لما للعاملين في هذا القطاع من أهميةٍ تحتّم علينا الاهتمامَ بهم ومعالجة قضاياهم.
إنّ إنشاءَ قاعدة بيانات تحتوي على كافةِ المعلومات التحليلية المتعلقة بمكوّنات النفايات، واستطلاع رأي السكان وأصحاب المهن بخصوص أفضل أوقات لجمع النفايات، الذي سيفيد في تقليل من الفاقد من المواد الصلبة الداخلة في صناعة التدوير، وتطوير استراتيجياتها، وبالإضافة لأهمية اختفاء مظاهر التلوث حول الحاويات، وتقليص حجم النفايات الواصلة إلى مكب الغباوي إلى 50%، وهي نسبة النفايات العضوية من مُجمل النفايات العامة التقديرية لمدينة عمّان، الذي سيقلّل كلف النقل والطمر في مكب الغباوي، وأسجّل هنا أنّ مكب الغباوي التابع لأمانة عمّان الكبرى، المكبُّ الوحيد الصحّي المصمّم على أحدث المواصفات الهندسية والبيئية في المملكة تحاكي أفضل الممارسات العالمية، لا سيما ومعالجة العصارة الناتجة عن طمر النفايات وحماية المياه الجوفية منها.
وأخيراً ... المدينةُ قالبٌ متغير ومعقّد من الأنشطة الإنسانية والمتغيرات البيئية ونحن نخطّطُ لمدينةٍ مستدامة نحتاج لفهم عميق للعلاقات بين الناس وبين قطاعات الخدمات والسلوكيات المختلفة لقاطنيها، كما أنه لا يوجد مدن بيئية مستدامة لولا وجود التخطيط الحضري البيئي والاجتماعي والاقتصادي، ولتحقيق ذلك يجب أن نعتمدَ تحفيزَ السكان وتحمّلهم مسؤولياتهم، ودراسة إشراك نطاق واسع من النبّاشين في مشاريع القطاعات الرسمية لإعادة التدوير لتخفيف الآثار الاجتماعية والاقتصادية عن هذا القطاع، في ظل فرض تشريعات تمنع أيّ من هذه الممارسات، وتنظيم إخراج النفايات ورفعها في ساعاتٍ محددة؛ لتحقيقِ ذلك ضمن سلسلةٍ من الإجراءات المختلفة.
*المهندس البشير: نائب أمين عمّان سابقاً، وعضو مجلس النواب السابق، ورئيس لجنة الخدمات العامة والنقل النيابية في مجلس النواب السابع عشر