انتصار الوردة على الهراوة
ياسر ابوهلاله
13-01-2009 03:46 AM
أتحسس الأثنتي عشر غرزة في رأسي لأتأكد أني لم أكن في حلم. ولا أقول في كابوس، فما حصل كان ورديا بالمعنى الحرفي. وأنا أنظر إلى غابة الورود التي تترواح بين الباقات الطابقية التي يرسلها الميسورون وبين تلك الصغيرة التي أعلم أن بعض من أرسلوها كانت على حساب قوت يومهم, قلت لزوجتي حنان في عرسنا لم تصلنا كل هذه الورود!
من المألوف والمعتاد عالميا اعتقال الصحافي وضربه وقتله.. منذ اللحظة الأولى قلت إني أتحمل مسؤولية وجودي في مكان خطر، فلم يعتد عليّ أحد وأنا أتسوق. وفي مجتمع نام ديمقراطيا أعلم أن تقاليد التظاهر لم تنضج لا عند المتظاهرين ولا عند قوات الدرك. وإن كان مؤشر الخوف ثابتا بحسب استطلاعات الرأي بحدود الثمانين في المائة. فالحمد لله أن ثمة عشرين في المائة لا يزالون مؤمنين بحقوقهم الطبيعية والدستورية في التعبير السلمي عن آرائهم من دون خشية من العواقب. وفي بلدان أخرى لا يمكن أجراء استطلاع لقياس مؤشر الخوف ولا تخرج المظاهرات إلا وفق المزاج الرسمي.
غير المألوف وغير المعتاد، أن تكون ردة الفعل بهذه السرعة وهذا النبل، فاتصال جلالة الملك كان أثناء تلقيَّ العلاج، والذي اطمأن فيه وجلالة الملكة على الوضع الصحي وأكد فيه رفضه لما جرى وتقديره للدور الذي يقوم به الإعلام. وفي أقل من ساعة كان رئيس الوزراء ووزيرا الداخلية والإعلام في المستشفى التخصصي.. مشهد كهذا أثار تيسير علوني المقيم إجباريا في غرناطة واتصل ليقول لي إنكم في الأردن تقدمون نموذجا غير مسبوق.
نعم، هي صورة وردية بلا افتعال ولا تكلف. وكنت أفرك عينيّ وأنا أشاهد الزائرين الذين يمثلون كل الأردن. غداة الحادثة كانت لجنة التحقيق تستمع لأقوالي، وتزامن حضورها مع رئيس الديوان الملكي، ناصر اللوزي، الذي أكد على استقلالية اللجنة خشية أن تؤثر زيارته على سير التحقيق.
في المساء كان سالم الفلاحات وزكي سعد ورحيل الغرايبة والنقباء وعميد المتظاهرين ميسرة ملص وليث شبيلات. ليس سقف المعارضة هذا. في المساء حضر الشيخ جراح من السلط، وهو من رموز السلفية الجهادية، وقال إن الشيخ أبو محمد المقدسي يسلم عليك. قلت له إنني منذ أفرج عنه تجنبت لقاءه حتى لا يعتقل مجددا خصوصا أنه اعتقل أكثر من عامين بعد مقابلته معي التي بثتها الجزيرة، رد إنه في الطريق إليك، وهي زيارة ليست إعلامية. وهو ملتزم بعدم التواصل مع الإعلام.
هل يحدث هذا في غير الأردن؟ عندما يكون أبو محمد المقدسي منظّر السلفية الجهادية في بيته وبين أبنائه أفضل للعالم والبلد من أن يكون في زنزانته. حتى لو أن بحثا في جامعة وست بوينت اعتبره أخطر من اسامة بن لادن. وعندما ترفع صور بن لادن في معان فهذه رسالة بأن ما يجري في غزة يستدعي أقصى ردود الفعل حتى في بلد وقّع معاهدة سلام مع الإسرائيليين منذ عقد ونصف العقد.
إن كان الدم في غزة ينتصر على السيف، فالوردة في عمان تنتصر على الهراوة. ليست حادثة فردية. وتشخيص كهذا سيكرّس التجاوزات. يوجد سلوك عدواني في لحظة الاشتباك. خلال ثلاث ساعات تلقى الإعلام معاملة غير مسبوقة سُمح بالنقل المباشَر تماما مثل ما حصل أمام السفارة الإسرائيلية في لندن. وعندما كان يلتبس عليّ الأمر كنت أقول إن الكاميرا تنقل أوضح من تعبيري. والإعلام هو مرآة تعكس، بلا تزيين ولا تشويه، وأنا على مسافة واحدة من المتظاهرين ومن قوات الدرك.
في الاشتباك ألقيت قنابل غاز واستخدمت الهراوات، شاهدت ذلك تماما، كما شاهدت متظاهرين يلقون حجارة وأحذية ويشتمون.. كان إمام الكالوتي يناشد رجال الأمن بعدم إلقاء الغاز المدمع لأن ثمة نساء حوامل ويناشد المتظاهرين عدم إلقاء الحجارة.. كل ذلك يحدث في النرويج وبريطانيا. ما لا يحدث هو السلوك العدواني، وهو بعض ما رصدتُه وفصّل فيه الدكتور هشام بستاني في مقالته في الغد.
هُدمت خيمة الاعتصام السلمي، وكُسرت شواهد المقبرة الرمزية، تقدمت من شخص يرتدي ملابس مدنية يكسر الشواهد على مرأى من قوات الدرك. وحرصا على الدقة سألته: "هل أنت مواطن أم رجل أمن؟" أجاب بحدة ومهددا أنه مواطن وإذا لم أغادر فإنه سيفعل كذا وكذا.. قلت له أنا صحافي وأقوم بعملي، وطلبت من الدرك أن يحموني من تهديداته، فتقدم أحدهم وشتم الذات الإلهية وكسر الشاهد وضربني بالهراوة.. خاطبت رفاقه وقلت أريد أن أعرف اسمه لأشتكي عليه لأنه خالف القانون وشتم الذات الإلهية.. فشاركوا بالاعتداء وأصررت على مطلبي..
غابت الوجوه بين ضارب وفازع، النقابي اليساري خالد رمضان يذكرني بنفسه ويرجوني مغادرة المكان، وأنا متمسك بحقي في معرفة الشخص.. ضابط من الأمن الوقائي نقلني بسيارته برفقة ضابط آخر من المكتب الإعلامي إلى المستشفى. في الطريق تحدثت للجزيرة. واصفا ما جرى معي.
بموازاة ذلك، كان صفوان العواودة، المصور وهو الذي ظهرت صوره على الجزيرة قد استبيح لأنه حاول مساعدتي. من أعطى الحق لدركيّ أن يقفز على جسد شاب لا يقوى على رفع يده؟ وقبله كان محمد الحويطي ومالك اللحام، ولا ذنب لهما إلا أنهما يصوران. هذا السلوك العدواني يمارس مع الناس وكيف يمكن أن يشتكي المواطن على دركي مقنّع؟ مالك تمكن من تسجيل شكوى لأن من ضربه في البداية كان شرطي سير، وللمفارقة فإنه ونسرين الشمايلة مراسلة الجزيرة الإنجليزية كانا في الطريق لمهرجان طبربور الذي بدأ وانتهى سلميا.
دعك من دور الجزيرة في العالم العربي، وهي التي تحقق نسبة مشاهدة في الأردن تصل إلى 60 في المائة ولا منافس لها. ألا يخدم غزة أن يصل للعالم الناطق بالإنجليزية صورة مائة ألف يعتصمون في عمان تضامنا معها؟ ألا يخدم صورة الأردن بأنه بلد سمح بالتظاهر منذ الساعات الأولى للعدوان وبمعدل 40 فعالية في اليوم؟ يخدم ويخدم.. ولا يخدم صورة الأردن الاعتداء على مواطن أو صحافي.
في المقابل ما حصل وفي أقسى صوره قد أثبت أن السفارة الإسرائيلية في عمان هي مكان يحتاج كل هذه الحماية، وأن الناس مستعدة لتحمل الضرب واستنشاق الغاز للتمكن من رجم السفارة. وفي ظل الحديث عن فرض خيارات إسرائيلية على الأردن تبدو الجبهة الداخلية الموحدة ضد إسرائيل هي الضمانة الإساسية لحماية البلاد.
يختلط الخاص بالعام، وأعجز فعلا عن شكر كل من اتصل وتضامن واطمأن، ولم أتمكن فعلا من الرد على كل الاتصالات. وأقول لهم إن ورودكم وصلت وأرد على الورود بمثلها. وهي الأصل وتظل الهراوة استثناء.
abuhilala@yahoo.com