الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالمينَ والصلاةُ والسلامُ على سَيدنا مُحمدٍ الأَمينِ وعلى آلهِ وصَحبهِ الطيبينَ الطاهرينَ ما إِن ودَّعْنَا مُنذُ فترةٍ شهرَ رمضانَ المباركَ شهرَ الخيرِ والبركةِ حتى بدأتْ فريضةٌ كريمةٌ عظيمةٌ أخرى تُطِلُّ علينا وهي فريضةُ الحجِّ يقولُ اللهُ تعالى: ﴿وللهِ على الناسِ حِجُّ البيتِ منِ استطاعَ إليهِ سبيلًا ومن كفَرَ فإنَّ اللهَ غنيٌّ عنِ العالمينَ﴾ سورةُ ءالِ عمران/97 ، وهو أمرٌ من جملةِ أهمِّ أُمورِ الإسلامِ التي أَخبرَ النبيُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ عنها بقَولهِ "بُنيَ الاسلامُ على خمسٍ: شهادةِ أن لا الهَ إلا اللهُ وأنّ محمداً رسولُ اللهِ وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ وحجِ البيتِ وصومِ رمضانَ" رواهُ البُخاريُّ.
إنَّ الأمَّةَ المحمَّدِيَّةَ اليومَ تنتظِرُ بشوقٍ لِتَشْهَدَ مظهرًا من مَظاهِرِ الوحدَةِ حيثُ يجتمِعُ المسلمونَ بأشكالِهِمُ المختلِفَةِ وألْسِنَتِهِمُ المتعدّدَةِ تحتَ رايةِ التوحيدِ التي جَمَعَتْهُم فوقَ أرضٍ واحدةٍ يدعونَ ربًّا واحِدًا. إنَّ موقفَ المسلمينَ على أرضِ عَرَفَةَ قائِلينَ «لبّيكَ اللهمَّ لبّيكَ، لبّيكَ لا شريكَ لكَ لبّيك، إنَّ الحمْدَ والنّعْمَةَ لكَ والمُلْك، لا شريكَ لكَ» موقفٌ تتطلع لهُ الأبصارُ، مَوْقِفٌ تَحِنُّ لهُ القلوبُ، موقِفٌ تَذْرِفُ لهُ العيونُ الدموعَ شوْقًا لِتِلْكَ البِقاعِ، شَوْقًا لأمِّ القُرَى لمكَّةَ ومِنَى وعَرَفَةَ، فريضةُ الحَجِ التي فيها الخَيرُ الكثيرُ والمنفعةُ والتي بها يَنفتِحُ بابٌ واسعٌ للإنابةِ والتوبةِ الى اللهِ وفي هذهِ الأيامِ تثورُ في نفوسِ كثيرٍ من المسلمينَ نوازعُ الشوقِ لأداءِ هذه الفريضةِ المباركةِ فيتوجَّهونَ مِنْ كلِّ حدَبٍ وصوبٍ من أطرافِ المعمورةِ قاصِدينَ الديارَ المقدسةَ بلادَ الهُدى والنورِ ومَهْدَ نُزولِ الوحيِ على نبيِّنا الأمينِ ،
يتوجهُ الحُجاجُ للوقوفِ بعرفةَ في يَومِ التاسعِ من ذي الحِجةِ الذي هُوِ أَفضلُ أيامِ العامِ كما وَردَ في الأَثرِ الذي أخَرَجَهُ ابنُ حِبانَ في صَحيحهِ من حَديثِ جَابرٍ عَنِ النبيِّ صَلى اللهُ عَليهِ وسَلمَ قالَ "أَفضَلُ الأَيامِ يَومُ عَرَفة" ، ويومُ عَرفةَ لهُ فَضائلُ مُتَعدِدَةٌ: منها: أنهُ يومُ إكمالِ الدينِ وإتمامِ النعمةِ وفيهِ نَزَلَ قَولُهُ تَعالى: "اليَومَ أَكمَلتُ لَكم دِينَكُم وأَتمَمتُ عَليكُم نِعمَتي وَرَضِيتُ لَكُم الإِسلامَ دِينا" ومِنهَا: أَنَّهُ عِيدٌ لأَهلِ الإِسلامِ كَما قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطابِ وابنُ عباسٍ رَضيَ اللهُ عَنهُم، فإنَّ ابنَ عباسٍ قَالَ: نَزَلت في يَومِ عيدينِ يَومِ جمعةٍ ويومِ عرفةَ، ورُويَ عن عُمرَ أَنهُ قَالَ: وكِلاهُما بِحَمدِ اللهِ لَنا عِيدٌ. أخَرَجَهُ ابنُ جَرِيرٍ في تَفسيرِهِ.
وَأخَرَجَ مَالكٌ في المُوطَأِ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَسَلم قَالَ "ما رُئيَ الشَيطانُ يَوماً هُوَ فيهِ أَصغَرُ وَلا أَدحَرُ وَلا أَحقَرُ وَلا أَغيظُ مِنهُ في يَومِ عَرفة وما ذاكَ إِلا لِما رَأى من تَنَّـزُلِ الرَحمَةِ وتَجَاوُزِ الله عن الذنوبِ العِظامِ إلا ما أُريَ يَومَ بَدرٍ"، قِيلَ: وَمَا رَأى يَومَ بَدرٍ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ "أَما إِنَّهُ قَد رَأى جِبريلَ يَزَعُ المَلائِكةَ". (أَي يَصُفُ المَلائِكةَ لِلقِتَالِ). فَمَن طَمِعَ في العِتقِ مِنَ النَارِ ومَغفِرَةِ ذُنُوبِهِ في يَومِ عَرَفةَ فَليُحَافِظ عَلى الأَسبابِ التي يُرجَى بِهَا العِتقُ والمَغفِرَة.
ومن فَضَائِلِ فَريضَةِ الحَجِ ما رَوى البُخَاريُ وَمُسلمٌ من حَدِيثِ أَبي هُريرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَسَلمَ قَالَ: "العُمرةُ إِلى العُمرةِ كَفارةٌ لِما بَينَهُما وَالحَجُّ المَبرُورُ لَيسَ لَهُ جَزاءٌ إِلا الجَنة". فَقد جَعلَ اللهُ للحَجِّ المَبرُورِ مَزيَةً لَيست لِلصَلاةِ ولا لِلزكاةِ وهِيَ أَنَّهُ يُكفِّرُ الكَبَائِرَ وَالصَغائِرَ لِقَولِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَسَلَمَ: "مَن حَجَّ فَلم يَرفُثْ وَلَم يَفسُقْ خَرَجَ مِن ذُنُوبِهِ كَيَومَ وَلَدَتْهُ أمُّه". رَوَاهُ البُخَارِيُ مَعَ أَنَّ الصَلاة أَفضَلُ الأَعمَالِ بَعدَ الإِيمانِ باللهِ وَرَسُولِهِ وَلكِن هَذهِ مَزِيَةٌ للحَجِ وَالمَزِيَةُ لا تَقتَضي التَفضِيل.
وَبَعدَ انتِهَاءِ مَنَاسِكِ الحَجِ يُستَحَبُ للحَاجِ مُتابعةُ السَيرِ إلى المَدِينَةِ المُنوّرةِ لِزيارَةِ الحَبيبِ المُصطَفى الذي مَحا اللهُ بِنُورِ هَدْيِهِ الظُّلُماتِ. وإِنَّهُ يُسَنُّ للحَاجِّ كَمَا لِغَيرِ الحَاجِّ زِيَارةُ قَبرِ النَّبيِّ الأَعظمِ صَلّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ بإِجمَاعِ العُلماءِ وَالمُجتَهدينَ وَهيَ من أَنجحِ المَسَاعي وَأَهمِّ القُرُبَاتِ إِلى اللهِ سُبحانهُ وَتَعالى، يَقولُ عَليهِ الصَلاةُ وَالسَلامُ "مَن زارَ قَبري وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتي" رَواهُ الدّارَقُطْنيُّ وقَوَّاهُ الحافِظُ السُّبكيُّ ويقولُ أيضًا "ما بينَ قَبري ومِنبَري روضةٌ مِن رِياضِ الجنّةِ" رَواهُ البُخَاريُ وَغَيرُهُ.
إذًا لأعمالِ الحجِّ وشعائِرِهِ فوائِدُ وحِكَمٌ عظيمةٌ ومزايا جليلةٌ ففي الحجِّ يجتمِعُ مِئاتُ الآلافِ مِنَ المُسلِمِينَ على كلمةِ لا الهَ إلا اللهُ محمدٌ رسولُ اللهِ وهُناكَ يَدعُونَ رَبَّهُم وخَالِقَهُم ويَتَعَارَفُونَ ويَأتَلِفُونَ ويُصبِحُونَ بِنِعمةِ اللهِ إخْوانًا، هُناكَ في هذِهِ الأرضِ المُقَدَّسَةِ يَتَذَكَّرُ المُسلِمُ أخاهُ المُسلِمَ وما له من حُقوقٍ فيتفاهَمُونَ ويتعاونونَ ليبلُغُوا الأهدافَ ويُحقِّقوا الآمالَ هُناكَ تَتَجلَّى مَعاني الأخوَّةِ والمُساواةِ بينَ المُسلمينَ فلنأخُذِ العِبرَ والدُّروسَ من هذِهِ الصّورةِ العَظيمةِ فإنَّ الاتحاد طَريقُ النَّصرِ وما عَزَّتِ الأمَّةُ وبَلَغَتْ ما بَلَغَتْ في أوَّلِ الأمرِ إلا لأنّها تَمَسّكَتْ واعتَصَمَتْ بحبْلِ اللهِ وتَغَلَّبَتْ على الأهواءِ مُسْتَجيبَةً لقولِ اللهِ تعالى {واعتصِمُوا بحبلِ اللهِ جميعًا ولا تَفَرّقُوا واذكُروا نِعمَةَ الله ِعَلَيكُم إذ كُنتُم أعداء فَألّفَ بَينَ قُلُوبِكُم {نَسأَلُ اللهَ تَعالى أَن يُوفِقَ حُجَاجَنَا الكِرامَ وأَن يَرُدَهم سَالِمِينَ غَانِمينَ بِالأَجَرِ وَالثَوابِ وأَن يَجعَل حَجَهُم مَبرُوراً وَسَعيَهُم مَشكُورَا.