التعليم المبني على أساس إيداع المعلومات من قِبَل المعلم لدى الطلاب، ثم استدعائها آخر العام ليس تعليما، انه أسلوب تلقيني، قائم على وجود طرف مرسل وطرف آخر يقوم بدور المتلقي والمستمع، تنتهي بملء عقول الطلاب بكلام ومعلومات أفرغت من محتواها ولا تثير، أو تستثير عقول هؤلاء المتلقين، حيث يقتصر دور الطلاب في هذه العملية على الحفظ والتذكر، وإعادة قراءة ما استمعوا اليه، دون أن يتعمقوا في مضمونه، ليتحول الطلاب في هذه العملية إلى مجرد بنوك تودع فيها المعلومات والبيانات .
يرى المفكر البرازيلي فريري في العملية التعليمية تجربة تحررية يستفيد منها الطرفان - الطلاب والمعلم - وبالتالي فإن على المعلم أن يبدأ بدون أفكار مسبقة، ويتوقع أن لدى طلابه ما يعلمونه إياه. وهنا يرسم فريري تصوراته للتعليم المبني على البحث عن حل لمشكلة ما، بحيث يبحث الطلاب سويا مع المعلم إيجاد حل للمشكلة المطروحة، وهنا يكون التعليم بنظره هو عملية تمكينية، وليست تلقينية تتمثل بأسلوب متعال سلطوي يعيق فرص الابداع والتطوير عند الإنسان، ويحرم عقل الطالب من ممارسة حق السؤال والتساؤل،
ويقول المفكر السعودي غازي القصيبي عن أسلوب التدريس الجامعي، من خلال تجربته الشخصية ما يلي: “لا يمكن للمادة التعليمية أن تكون مفيدة ما لم تكن مشوقة، ولا يمكن أن تكون مشوّقة ما لم تكن مبسّطة، ولا يمكن أن تكون مفيدة ومشّوقة ومبسّطة ما لم يبذل المدرس أضعاف الجهد الذي يبذله الطالب. كنت أقول للطلبة في المحاضرة الأولى أن رسوب أي منهم يعني فشلي في تدريس المادة قبل أن يعني فشله في استيعابها. كنت أقضي وقتا طويلا في التحضير: ثلاث ساعات من القراءة لكل ساعة في الفصل. لا يمكن لمدرس أن يُعدّ محاضرة مشوقة إذا اكتفى بقراءة كتاب واحد. وسرعان ما يكشف الطلبة الفرق بين محاضر حقيقي يشد انتباههم، وبين محاضر يردد كالببغاء ما يجدونه في الكتاب المقرر.
التيسير والتعسير (أو التشويق والتعقيد) هذا هو الفرق بين المدرس الناجح والمدرس الفاشل. علمتني تجربتي الدراسية الطويلة أن المدرس الذي يستطيع تبسيط المنهج، يفتح أمام الطالب آفاقا جديدة من المعرفة ويحثه على الاستزادة منها. أما المدرس الذي يتعامل مع مادته وكأنها لغز أو طلسم، فإنه سرعان ما ينجح في جعل الطلبة يتعاملون مع المادة، وكأنها بالفعل من الألغاز أو الطلاسم. أذكر أن مدرسا في كلية الحقوق هددنا في أول محاضرة، بأن نتوقع كتابا لا يقل حجمه عن خمسمائة صفحة. عجيب أمر مدرس يخوف طلبته بحجم كتابه. . !
كانت علاقتي مع طلبتي من محاضرتي الأولى إلى محاضرتي الأخيرة، قائمة على الكثير من الاحترام المتبادل والكثير من المودة المتبادلة. لم يكن أحد يرسب إلا أولئك الذين يصرون على الرسوب. كنت بعد الانتهاء من تصحيح الأوراق أضيف 10 % من درجة المادة إلى كل الذين يحتاجون هذه النسبة، ليصلوا إلى الحد الأدنى المطلوب للنجاح. لم أكن افعل هذا مدفوعا بسخاء حاتمي، كنت أقوم به حرصا على توخي العدالة. في العلوم الاجتماعية بخلاف العلوم الطبيعية، لا توجد أمام المصحح خطوات محددة، يستطيع أن يصحح الأوراق على أساسها بموضوعية تامة، كما يصحح الكمبيوتر أسئلة الخيار المتعدد.
يتأثر المصحح بالأسلوب وبالتنظيم وبالخط إلى درجة لا بد وأن تؤثر على حياده. كنت حريصا على ألا يُظلم أحد بسبب ضغط الامتحان النفسي، الذي قد يؤثر على عرض الأفكار وتنسيقها. وكنت حريصا على ألا يجازى أحد بسبب رداءة خطه. إن استغرابي لا ينتهي من مدرسي العلوم الاجتماعية، الذين يصرون على رسوب طالب بسبب نقص درجة أو درجتين، وكأنهم قد وزنوا الإجابة بموازين الذهب.
علاقة الطالب مع المدرس علاقة حميمة فريدة تستمر عبر السنين. لا تزال فرحتي بالغة عندما يتقدم أحد مني ويخبرني أنه كان من أحد طلبتي. وفرحتي لا تعرف الحدود عندما أجد طالبا من طلبتي وقد نبغ في ميدان من الميادين.
لا بد هنا أن أقول أن التدريس فن لا علاقة له بكمية العلم التي يختزنها المدرس. أغزر الناس علما قد لا يكون قادرا على نقل علمه إلى الآخرين، وأنجح المدرسين قد لا يكون أعلمهم. قد يجمع الأستاذ الجامعي بطبيعة الحال الحسنيين، فيكون عالما بارزا ومدرسا موهوبا. إلا أن هذا الجمع ليس سنة من سنن الحياة، يقول القصيبي،