ربما وحدهم العسكر في بلدنا يعرفون تضاريس الوطن عن ظهر قلب ، ويحفظون أسماء القرى والمدن والجبال والتلال والسهول والأودية ، كما يحفظون وجوه أمهاتهم وأسماء ابنائهم وأرقام أسلحتهم ، ولأنهم النبض الحي الذي لا يخبو ، فهم الأقرب للتراب حتى لو كانوا بين السحاب ، وترى المعسكرات والكتائب والسرابا مزروعة بين تلك التلال وعلى أطراف الأودية ، عمروها العسكر بصوتهم وأشعلوا صباحاتها بتدريباتهم.
رافقت ذات مرة تلاميذ جامعة مؤتة وهم ينفذون تمرين المسير الطويل على الأقدام ، والذي يمتد لعشرة أيام ، كجزء من دورة "الصاعقة" مع العمليات الخاصة ، انطلقوا من "سهل نصاب" شرقي "وادي الحجر" في الزرقاء ، متجهين نحو "خو" ، وهم يقطعون المسافات نحو طريق الزرقاء- المفرق ، صاعدين نحو " ثغرة الجب " حيث يريحون تعبهم في تلك التلة المشرفة ، ثم ينعطفون غربا إلى مغاريب المفرق ، يساهرون النجوم نحو مروج "رحاب بني حسن " إلى " المنشية " ثم " أم اللولو" يزورونها إلى أن يحطوا رحالهم تلك الليلة بالقرب من "جامعة العلوم والتكنولوجيا" حيث سهول " النعيمة " تعمر بمروج القمح ، يغفون بجوارها مع جيرانهم من الحصادين
في الصباح يسبقون الشمس ويصعدون نحو الشمال ، مع مشاريق " الصريح " ، ويسلمون على سهول حوران قاصدين " بشرى وسال" و"مرو" ، يستظلون في ظهرهم تحت زيتونها وتينها .
وهم ينسلون بكل وهج العسكر ، كانوا يتجنبون دخول المدن والقرى ، يعرجون من أطراف بساتينها وكرومها ، ويقطعون السناسل بصمت ، لا يؤذون أحدا حتى الطير يمر بسلام فوقهم ، يتجهون نحو قرى "بني كنانة " الغافية بخجل هناك ؛ حيث "حرثا" و"سمر" كالدحنون يتوهجن جمالا ، ثم يشربون من " عين تراب " ، ويتابعون خطواتهم نحو " عقربا " وواديها الطيب هناك ، يجذبهم الرمان الذي يتلألأ على شجره ، وربما أتى صاحبه ودعاهم لقطفه وتذوقه لكنهم شكروه بأدب الضيف العجول ، وبالقرب من "سحم الكفارات " وفي غابة " العشة " ينامون ليلتهم ، ومن هناك ربما تسمع صوت سيوف اليرموك وصهيل خيولهم..
يتسللون مع طلعة الفجر نحو " الشق البارد " الذي ليس له من اسمه نصيب ، ترتفع الحرارة هنا ولربما تقترب الشمس حد الرؤوس ، وهم يعبرون الغور الشمالي وبالقرب من الحدود الأردنية السورية ، يمشون نهارهم في الغور ثم يحملون تعبهم ثانية ويصعدون نحو رحلة العودة إلى " راجب " جارة " عجلون " و"كفرنجة" ، هنا يتسرب الهواء البارد إليهم ويودعون الحر نحو الهضاب الوعرة ، ويستظلون بالبلوط واللزاب حيث تنتهي رحلة المسير هنا ، وقد تركت ندوبها في بواطن الأقدام ، وعلى الركب والخواصر .
ربما اختصرت الكثير من أسماء القرى والأماكن في رحلتهم ، لكن تبقى في ذاكرتهم محفورة ، ليست كدرس الجغرافيا في المدرسة ، ولكنه درس مشوه بأقدامهم ، ومسحوا عرقهم وتعبهم بجواره، لأن الجغرافيا الوطنية جزء أصيل من ذاكرة العسكر التي لا تنسى ، وتبقى مستودع الذكريات والحكايات التي تروى للولد وولد الولد .