في الصخب الكبير الدائر على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي حول مجرد إبداء الرأي في بعض المسائل الفقهية أو العلمية، أو مجرد التفكير بالمناقشة يدل دلالة قاطعة على منهجية التعليم لدينا التي تقوم على التلقين الصارم الذي يبتعد تماماً عن منهجية استخدام العقل بمنهجية علمية صحيحة ترتكز على تمليك الطلاب إمكانية البحث عن المعرفة، والوقوف على البراهين والأدلة بطريقة نقدية، إذ يقول بعض الأصدقاء إن بعض الأساتذة يقول لطلابه: «إذا قرأت الحديث في البخاري فأغلق عقلك»، بمعنى وجوب التسليم وعدم المناقشة سواء كان الحديث موافقاً للقواعد العقدية والفقهية أو غير موافق، موافقاً للحقائق العلمية أو غير موافق.
أعتقد أن هذا المنهج في غاية الخطورة، ويلحق الضرر بالدين أولاً، ويلحق الضرر بالطلاب وعقولهم، ويلحق ضرراً فادحاً في المستقبل الذي ينتظر أبناءنا وأجيالنا القادمة، وهو مخالف لأمر الله البيّن القاطع المتكرر في أكثر من موضع مخالفة صريحة ، عندما قال: «إن الله يأمركم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ..» ، «قل سيروا في الأرض ثم انظروا»، «الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض»، وقد استنكر الله على الذين يقولون: «إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم لمقتدون»، يجب أن يعلم مدرسو الشريعة أن الفريضة الأولى في الدين هي فريضة التفكير، التي تعد أساساً لكل الفرائض الأخرى، وعندما يتم تعطيل العقل والتفكير فقد عطل كل فرائض الدين وقواعده.
ما قام به البخاري جهد عظيم ومقدر ولا أحد ينقص من هذا الجهد ولا يغمطه حقه، ولكن ما قام به البخاري جهد بشري، وهو ليس قرآنا، فيه أحاديث ظنية كثيرة توضع في مكانها ومرتبتها، وتفهم في ضوء القرآن، وقواعد الإسلام ومبادئه وقطعياته، ويجب تعليم طلاب العلم بالمقاصد والقواعد العامة أولاً، وكيفية التنسيق والتوازن بين القرآن والسنة والعقل، وتحقيق الانسجام وإزالة التعارض والتناقض بين الادلة بطريقة علمية صحيحة.
يجب أن نعلّم طلابنا الجرأة في الطرح والمناقشة، والجرأة في النقد، والجرأة في المعارضة، وليس أمامنا إلا الصبر عليهم من خلال تمليكهم أدوات المحاججة العلمية في جو علمي مريح بعيد عن الإرهاب والتخويف، وبعيد عن منطق الضعف واللجوء إلى استخراج النسخ المقلدة التي تجعل من التلميذ كتاباً مشوهاً يضاف إلى الكتب المصفوفة في خزائن المكتبة.
تقول لبعض المؤسسات العلمية المختصة والمهتمة بتنمية القدرات العقلية لدى الأطفال، إن دماغ الإنسان يتكون من نصفين: أيمن وايسر وكل منهما مسؤول عن عدد من النشاطات والمهارات، فالأيسر مسؤول عن المنطق والتحليل وتعلم الحساب واللغات وحفظ المفردات، والنصف الأيمن من الدماغ مسؤول عن الابتكار والإبداع والتخيل والتفكير الشمولي والحدس ومهارات حركية أخرى، ونجد أن الأنظمة التعليمية في معظم الأقطار العربية لا تقوم على تفعيل قدرات الدماغ الكثيرة والعديدة، ولا تستطيع تنمية المهارات والملكات والمواهب التي يمكن اكتسابها، ويتم التركيز على جوانب الحفظ والتلقين وخاصة لدى الأطفال والشباب في مقتبل العمر عندما يكون الدماغ في أوج نشاطه، وهذا يحتم على المدرسين أن يعملوا على تخريج جيل جديد أقوى من الأجيال السابقة، حتى نضمن بقاءنا في منحنى متصاعد، أما إذا كان كل جيل يأتي أضعف من الجيل الذي يسبقه فنحن عند ذلك نكون في نزول نحو الهاوية.
الدستور