من طريق الشام تأتي.. حافلات قديمة، بألوان حائرة بين الحمرة والصفرة تشبه ورق الخريف، رسومات تزيّن زنّارها، وأدعية وكتابات باللغة التركية قد نال منها غبار الطريق.. كانت تطلق دخاناً كثيفاً أسود فور اجتيازها الجمرك، كنت أتخيّله زفير الحافلات الخائفة، وما أن تبتعد قليلاً عن التفتيش والحدود والجوازات، حتى تتهادى ثم تحطّ في حارتنا.. ينزل السائق ومعاونوه، يرتّبون الأمتعة التي أنزلها المفتّشون، يشدّون الحبال من جديد، يلملمون الحقائب والأغطية كي لا تسقط في طريق الصحراء الطويل، ثم ينادون على حجّاجهم وينطلقون..
لا أعرف بالضبط إن كان الحجاج أتراكا أو أكرادا أو تركمانا لكنّهم ليسوا عرباً، كنا أطفالاً ولا نميّز بين اللهجات، يتكلّمون فيما بينهم، يضحكون، يشيرون الينا بأصابعهم يبتسمون وكأنهم يقولون شيئاً، أو ربما يقيسون أعمارنا بأعمار أحفادهم الذين لا نعرفهم، انه الاشتياق الباكر في أول السفر حيث يحن الغريب إلى كل شيء يذكّره ببيته..
«جالونات من الحديد» معلقة على جانبي وسلّم الباص، انه مصدر الماء الوحيد للوضوء والشرب الاغتسال، وكلما حطّوا في مدينة مأهولة يعبئون منها حاجتهم.. كل البيوت بيوتهم لا يترددون في طرق الأبواب، فهم ضيوف الله المارّين من هنا، موسم الحجّ يشبه موسم هجرة الطيور، يحضرون أسراباً.. وأنت المضيف للاثنين معاً.. يحلّقون حولك تسمع لهجتهم البعيدة، تتأمل، تراقب، ترافقهم عيناك وهم يغيبون، تتمنى لو أنك معهم..
توقّفت إحدى الحافلات القديمة ذات ظهيرة أمام بيتنا.. انشغل السائق بإصلاح العطل الميكانيكي، بينما قمنا باستقبال الحجّات - العجائز منهن - ليستظللن قليلاً في بيتنا، بعضهن لم يتردد في دخول البيت، كن يتوضأن يغسلن وجوههن يشربن الماء البارد يتناولن الضيافة، والبعض الآخر منهن كان يكتفي بالجلوس في فيء البيت مشتاقاً إلى مكّة أكثر من الماء البارد، لم تكن تفهم أمي على السيدات المسنّات لكنها كانت تبتسم كنوع من ردّ الامتنان، الامتنان لا يحتاج إلى مترجم، العيون وحدها وفتح اليدين والنظر إلى السماء توحي أن حجم الشكر كبير جداًً.. إحداهن وضعت في يدي « تين مجفف».. هذا كل ما تملكه أو هكذا تهدي «أحفادها»، كان بيتنا على درب الحجيج.. وواحة عبور كما كل البيوت البسيطة..
وقت الغروب كنا نراقب الحافلات القديمة التي تمرّ بشارع الرمثا الرئيس محمّلة بالحجاج القادمين من الشام وتركيا وداغستان و دول الاتحاد السوفياتي، أعراق مختلفة، جنسيات مختلفة، من بيوت مختلفة.. تقصد نفس البيت والمكان والإله.. كانت الباصات الملوّنة كمساءات الخريف تمر ببطء وهدوء تشبه سكينة الحجاج.. لا نرى من نوافذ تلك الحافلات سوى أكمام الثياب البيضاء المتكئة على حواف النوافذ، كنوارس تقف على قارب بحري..
لم يعدّ يمرّ الحجاج من أمام بيوتنا كما كانوا، لم يعودوا يستظلون في فيء أشجارنا كما كانوا.. لم يعودوا يلوّحون لنا كلما هتفنا لهم كما كانوا..
لقد فقدت مساءات الخريف بريقها.. عندما فقدت الشام طريقها!..
الراي