تعاملت تركيا، الرسمية والشعبية، مع العدوان الصهيوني على غزة بطريقة لم يشهدها تاريخ الصراع العربي- الصهيوني منذ تأسيس الدولة الصهيونية عام 1948 ، قبل واحد وستين عاماً، أو بداية استهلاله على أثر مؤتمر ''بازل'' بسويسرا عام 1897. بل منذ أن تخلت تركيا عن دورها القائد للنظام العربي- الإسلامي، على أثر انقلاب مصطفى أتاتورك على شرعية الخلافة الإسلامية وتأسيسه، لما يسمى، بتركيا العلمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
وبقيت تركيا على علاقة غير متكافئة مع الغرب، وتم استغلالها من قبل الغرب لتمرير العديد من الأجندات الغربية ضد المصالح العربية والإسلامية، خاصة دعم إسرائيل وتبني سياساتها على حساب الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني المسلم.
إلا أن مواقف الشعوب والأمم لا يمكن قياس توجهاتها و تجاذباتها بعقد من الزمن أو حتى بعقود، وإنما يجب النظر إليها ورصدها والحكم عليها من خلال العديد من المعطيات، خاصة ما يتعلق بالعقيدة والتاريخ والتراث والمصالح الإستراتيجية. فالشارع التركي المسلم استطاع أن يحيد المبادئ الأساسية للعلمانية التي بناءً عليها بنيت الدولة التركية الحديثة، ولم يقف هذا الشعب المسلم عند هذا الحد، بل أخذ بإعادة إحياء التراث العظيم لتركيا في محيطها العربي والإسلامي، سواء ما يتعلق بالدين الإسلامي كعقيدة وبعد روحي ووجداني أو كخيار سياسي ونظام حياة. فكانت نتيجة الديمقراطية التركية وخيار شعبها التي بدأت في بداية تسعينيات القرن العشرين، سواء ما يتعلق بالانتخابات البلدية أو الانتخابات التشريعية والرئاسية، شاهد عيان لتوجه الشعب التركي تجاه إعادة مجده وتاريخه الذي طالما بقي طي النسيان لأكثر من سبعين عاماً.
ويمكن استقراء الأحداث التي فرضت وجودها على طبيعة وتطور البعد العقيدي والإقليمي للسياسة الخارجية التركية الراهنة. حيث يمكن النظر إلى العديد من العوامل التي قادت الشعب التركي لإعادة رسم أولوياته ومصالحه الإستراتيجية، وعلى رأس ذلك الرفض المطلق للإتحاد الأوروبي بقبول تركيا في عضويته، وقناعة تركيا الكامنة، الرسمية والشعبية، بأن أحلام هذه العضوية لن تتحق لأكثر من سبب، أولها بأن هذا النادي الأوروبي- الغربي-المسيحي لن يقبل تركيا المسلمة في العضوية، كما أن اجترار أحداث التاريخ الصراعي، الإسلامي-الأوروبي، إبان الدولة العثمانية، يجعل من قبول تركيا في عضوية الإتحاد الأوروبي أمراً لا يمكن تحقيقه، بالإضافة إلى نظام الإجماع في التصويت لمجلس الإتحاد الأوروبي والذي يعني حق أي عضو في الاتحاد باستعمال حق الفيتو ضد قبول أي عضو جديد، وهذا يعني بان العديد من الأعضاء كاليونان وفرنسا وبعض دول البلقان ستقف عقبة أمام قبول عضوية تركيا.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن طموح إيران تجاه احتواء العالمين العربي- الإسلامي، والاحتلال الأمريكي للعراق وتدمير هذه الدولة المهمة للتوازن الإقليمي والوضع المتأزم في جنوب تركيا، ساهم في إعادة تركيا لقراءة تاريخها ومصالحها وأجنداتها.
كما يمكن اعتبار رفض الشارع العربي للنظام الرسمي العربي ودوره المتردي في الدفاع عن حياض الأمة وسيادتها، خاصة ما يتعلق بالعدوان الإسرائيلي على غزة وشعبها المسلم الأعزل، عامل آخر عجل تركيا في إعادة رسم توجهاتها. هذا مع عدم إغفال الجانب العقيدي للدور التركي الراهن والواعد.
فكانت البداية وصف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان العدوان الإسرائيلي على سكان قطاع غزة بأنه ''نقطة سوداء في تاريخ الإنسانية''، وتساءل عن مبررات ''هذه الوحشية''. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل هذا التوجه مجرد موقف سياسي أم تأسيس لمرحلة جديدة في دور تركيا الإسلامية الراهنة؟.
almajal47@yahoo.com ئ؟