وزير الزراعة في زيارته لفلسطين .. ترحيب وحفــاوة وتلاشٍ للحـدود بيــن ضفتــي النهـر
ابراهيم عبدالمجيد القيسي
21-08-2017 02:02 PM
ما الشعور الذي كان يراود تلك الفتاة الفلسطينية، التي كانت تلتقط صور موكب السيارات الطويل، وتقف تحت لافتة كتب عليها عبارة ترحيبية في مجلس قروي لمنطقة ما في طوباس، لم يترك الغبار سبيلا لقراءة اسمها على تلك اللافتة، لا بد أن الشابة موظفة في المجلس القروي المذكور، وكانت تلتقط صورا لزيارة تعتبرها تاريخية، يقوم بها وفد رسمي أردني يترأسه وزير الزراعة المهندس خالد الحنيفات، وهي زيارة الى رام الله جاءت ضمن اجتماعات اللجنة الزراعية الأردنية – الفلسطينية المشتركة، حظيت بترحيب وحفاوة من قبل كل الفلسطينيين في منطقة السلطة الفلسطينية في رام الله وسائر المدن الفلسطينية.
من أريحا أولا ..
منذ صبيحة الأربعاء 16 الجاري، توجه وفد أردني رسمي برئاسة وزير الزراعة، لحضور اجتماع اللجنة الأردنية – الفلسطينية الزراعية المشتركة، حيث كان الاستقبال في أريحا حافلا، تحدث فيه وزير الزراعة الفلسطيني الدكتور سفيان سلطان ومحافظ أريحا المهندس ماجد الفتياني بكلام جميل عن الشقيقة الأردن، ثم انطلقوا في جولة على مزارع النخيل الفلسطينية في أريحا، حيث افتتح وزير الزراعة الأردني موسم قطاف التمور في فلسطين، وقام بقطف أكثر من عنقود بلح، وسط اهتمام صحفي كبير، وحضور لافت من قبل كل المعنيين بالقطاع الزراعي في أريحا، ثم مضت الجولة الى مصنع تمور فلسطيني يستخدم تقنية حديثة في التغليف والتدريج والفرز، وعلى ارتفاع يتجاوز مئات الأمتار، انطلقت رحلة جوية ليس في طائرات ولا مناطيد بل في عربات «تل فريك اريحا»، حيث الفرصة أكبر لرؤية المزارع والحقول والنخيل العربي النابت من بطن الأرض الفلسطينية المباركة، وانتهت الزيارة بغداء «الزرب» الذي قطع كل قول عن الشرق والغرب، وتلاشت معه كل الحدود بين ضفتي النهر المقدس .
لم تكن حادة؛ تلافيف الطريق من أريحا إلى رام الله، رغم حدة الحر ووجع النظر، حيث المستوطنات الاسرائيلية تنتشر في الأراضي الفلسطينية المهمة وتعتلي كل قمة، تروق للناظر من قريب او بعيد، لكنه منظر يتبدد جماله بعد أن تعرف بأنها مجرد ثآليل اسرائيلية تنتهك السيادة والبركة الفلسطينية، وتقف في طريق الزراعة والتنمية الفلسطينية وتخنقها ببشاعة، ثم تتراءى لك مفارز عسكرية اسرائيلية على شوارع تقع بين المدن والقرى الفلسطينية، ولافتات مكتوبة بالعبرية، مناظر توحي بأن الأرض ما زالت مسروقة، ولا حرية او أمن او سيادة في التنقل بين أوصال الضفة الغربية التي ما زالت شوارعها وطرقها اسرائيلية !.
اللقاء برئيس الدولة الفلسطينية..
في السابعة والنصف دخل الوفد الأردني الى مقاطعة رام الله، محفوفا بالحفاوة والترحيب، مزفوفا بسيارات تعبر عن مظهر احتفالي بالوفد الضيف، وهذا ما عبر عنه الرئيس محمود عباس حين استقبل الوفد، قال بنبرة يعلوها شعور بالانتصار الديبلوماسي : « لقد كان هنا في الأسبوع الماضي، جلالة الملك عبدالله الثاني، الذي زارنا بزيارة مهمة جاءت في توقيت مهم، وعلى خلفية أحداث كبيرة، أعطتنا دفعة ديبلوماسية، وعززت التنسيق بيننا، وأضافت الى رصيد الأردن الكبير موقفا ملكيا أردنيا أثيرا، يثبت مدى الترابط والتلاحم بين الشعبين الأردني والفلسطيني، فالمصير واحد والهدف واحد والدعم الهاشمي الأردني لا يتوقف»، ثم قام وزير الزراعة الفلسطيني بالتعريف بالوفد الأردني وبهدف الزيارة، وذكر الاقتراح المهم الذي تقدم به وزير الزراعة الأردني المهندس الحنيفات « تأسيس شركة أردنية – فلسطينية خاصة لتسويق المنتجات الزراعية الأردنية والفلسطينية»، وهي الفكرة التي نالت استحسان الرئيس عباس وتحدث عنها بطريقة باعثة على الحماس، وتعهد بكل الدعم لتنفيذها، فهي تعتبر بوابة أخرى من بوابات التخفيف على المزارع الفلسطيني والأردني، وتفتح آفاقا مهمة للانطلاق الى الأسواق في البلدين والى الأسواق العالمية، وأنصت الرئيس عباس والحضور جميعا الى ما قاله وزير الزراعة المهندس خالد الحنيفات، الذي نقل للرئيس عباس رسائل شفوية من مرجعيات أردنية عليا.
مع رئيس الوزراء الفلسطيني ..
في صبيحة اليوم التالي، وفي مقر رئاسة الوزراء الفلسطينية انتظر الوفد قليلا، حتى يعود الوزير الحنيفات من مبنى التلفزيون الفلسطيني الرسمي، حيث كان الاهتمام الاعلامي بالوفد الأردني وبرئيسه لافتا، وبعد وصول الوزير الحنيفات بصحبة السفير الأردني برام الله خالد الشوابكة يرافقهما وزير الزراعة الفلسطيني، التأم الوفد وتم الاجتماع برئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمدالله، الذي بين للوفد الضيف ما تعانيه الزراعة والمزارع الفلسطيني من تضييق وعراقيل من قبل الاحتلال الاسرائيلي، وثمن الدور الأردني الكبير الداعم لفلسطين في القطاع الزراعي وغيره، وأبدى اعجابه ودعمه للاقتراح الأردني بتأسيس شركة لتسويق المنتجات الزراعية بين الدولتين الأردنية والفلسطينية، وأثنى على الجهود التي يبذلها الجانب الأردني في اللجنة الزراعية الأردنية – الفلسطينية المشتركة، واستمع باهتمام لحديث وزير الزراعة رئيس الوفد الأردني، وهو الاهتمام الذي يصدر صادقا عن مسؤولي السلطة الفلسطينية والمواطنين الفلسطينيين ووسائل الاعلام، ويتضمن كل مشاعر الإعجاب بأفكار الوزير الأردني الشاب، وأدائه العملي، البعيد عن العواطف، والذي يحاكي المنطق ويحقق المزيد من النتائج والانجازات الايجابية، ويعرض المشاكل والمعيقات بطريقة واضحة مقدما البدائل على أي حديث آخر.
توقيع محضر الاجتماع في وزارة الزراعة الفلسطينية .
اكتمل حضور أعضاء اللجنة الفلسطينية للاجتماع بالوفد الأردني، حيث عبر وزير الزراعة الفلسطيني د.سفيان سلطان عن مدى أهمية اللجنة المشتركة، وتحدث عن اجتماعاتها السابقة وما تم تحقيقه، وأن هذا الاجتماع في وزارة الزراعة الفلسطينية هو استحقاق على جدول أعمال اللجنة، وأجابه وزير الزراعة الأردني المهندس خالد حنيفات مؤكدا ضرورة المضي في تطبيق توصيات اللجنة، على صعيد التعاون المشترك والتسويق والتدريب وتبادل الخبرات وتذليل العقبات أمام منتجات القطاع الزراعي في الدولتين الشقيقتين، مؤكدا أن هذه المساعي الأردنية لدعم الأشقاء في فلسطين تحظى بتوجيهات ملكية مستمرة، وبرعاية حكومية من قبل حكومة الدكتور هاني الملقي وكل الحكومات التي سبقتها، وأن العمل والنتائج هي الهدف، وهي التعبير السليم عن عواطف المحبة والاحترام والتضامن الجياشة بين الأشقاء، وتحدث الوزيران عن الاجتماع القادم للجنة الزراعية الأردنية – الفلسطينية المشتركة العليا، في نهاية أيلول القادم، والتي تجري بمشاركة رئيسي الوزراء في البلدين، لاستكمال مشوار التعاون في القطاع الزراعي وتحفيزه الى مزيد من التطور والانتاج.
الرحلة إلى طوباس .
كانت الساعة تقترب من 12 ظهرا، حين قامت سيارات الشرطة الفلسطينية المرافقة للموكب الرسمي بالالتفاف عائدة الى رام الله، فحدود اختصاصها ينتهي على بعد 100 متر قبل الحاجز الاسرائيلي الذي يقع على بوابة رام الله، ليكمل الموكب رحلته برفقة وزير الزراعة الفلسطيني لكن الى طوباس هذه المرة، وهي الرحلة التي كان الرئيس عباس قد اعتبرها صعبة على الوفد الضيف، وأثناء لقائه بالوفد الأردني وجه السؤال لوزير الزراعة الفلسطيني مازحا : « بهيك جو بتاخدوهم ع طوباس ! الخليل ومزارعها أقرب»، وبدأ معنى تساؤل عباس بالظهور:
طريق يمتد حوالي 100 كلم، يبدأ من رام الله منحدرا حتى طوباس في الغور الفلسطيني الشمالي، يتلوى بين جبال تحتل المستوطنات قممها، وتنتشر الحواجز الاسرائيلية على جنباتها، لكن الزيتون الفلسطيني يفرض سطوته، فكل الجبال على جانبي الطريق مزروعة بشجر الزيتون القديم، الذي تم تقليمه وقصه لينبت من جديد لكن على سيقان «قرامي» ضخمة، تبين أن هذه الأرض تتحدث بلهجة فلسطينية مباركة، رغم كل الثآليل على قمم الجبال ورغم اللغة العبرية على اللافتات المنتشرة على الطريق الطويل.
باهتمام عفوي بالغ تم استقبال الوفد الأردني، ولا تكاد تسمع سوى كلمة «معالي الوزير..معالي الوزير»، كلهم يتحدثون باهتمام ويقدمون معلومات في تلك الشركة الفلسطينية الكبيرة، كتلة بشرية كبيرة، تضم مسؤولين ومستثمرين في الزراعة الفلسطينية، وتقنية آلية عملاقة نسبيا، في ذلك المصنع، واهتمام اعلامي كبير ..لقاءات تلفزيونية وتصوير خبري، وآخر تذكاري، حيث وقف الجميع تحت لافتة ترحيبية كبيرة بالوزير والوفد المرافق، حملت صورتي الملك عبدالله الثاني والرئيس عباس، وكانت تحت اسم شركة الفرات الفلسطينية، وبتوقيع الحاج فخري محمد علي وأولاده، ولم تكن هي فقط التي تعبر عن فرحة الأشقاء الفلسطينيين بلقاء أشقائهم الأردنيين، بل ان الموكب الطويل من السيارات التي رافقت الوفد في زيارة أخرى لمزرعة جديدة في طوباس يعبر عن مقدار الاهتمام والفرح الفلسطيني، والناس نساء وأطفالا وشيوخا وشبابا يقفون على جوانب الطريق، يحيون الموكب والأردن، وكانت تخرج من بعضهم كلمات ترحيبية صادقة، تقع على مسامع أعضاء الوفد، لتفسر صدق المحبة العفوية الفلسطينية واحتفائهم بالوفد الأردني، الذي ربما هو أول وفد يزور تلك الأراضي المحررة حديثا من سطوة المحتل «منذ 5 سنوات»، حيث الأرض بكر والمزارع حديثة، وكانت إحداها هي التي قام وزير الزراعة الأردني بزراعة «دالية عنب» فيها، وتمنى أصحابها لو أن الوفد يعود يوما ليأكل من ثمرها.
قبل أن يتناول الوفد «المنسف الأردني» في منزل موفق الضراغمة بطوباس، كان قد زار مصنعين فلسطينيين، أحدهما ظهرت فيه تقنية لمعالجة الجزر وفرزه وتدريجه وتعبئته وتغليفه، تجول الحضور فيه وكلهم شربوا عصير جزر طازج، أضفى على الحر والفرح انتعاشة أخرى، تشبه في تأثيرها الدواء المستخلص من مصنع الأعشاب، الذي زاره الوفد وشاهد التقنية الحديثة فيه وتذوق بعض أعشاب الجرجير والبصل الأخضر الدقيق الغريب، ثم بعد الغداء الأردني في منزل فلسطيني عاد الوفد الى رام الله على ذات الطريق لكن صعودا، دفع بأبي علي الذي يقود السيارة الثانية للوفد الأردني أن يتوقف للتزود بالوقود، وكانت «الكازيات» على الطريق شحيحة، لكنه بعد السؤال اهتدى الى «محطة وقود» عبأ منها أقل من 20 لترا من بنزين 95 بمبلغ 100 شيكل، تعادل حوالي 20 دينارا أردنيا، ثم فتحوا حديث الغلاء الذي يعانيه المواطن الفلسطيني المحاصر، وقال أبو محمد «كيلو الخبز عندهم بـ80 قرشا..أعانهم الله»، ولولا رفقة أحد الشباب الفلسطينيين لسيارة ابو علي لتاهت أو تأخرت أكثر عن الوصول الى الفندق في رام الله.
عشاء مشاوي في بيت السفير الأردني ..
المستشار «القنصل» الأردني في رام الله نزار القيسي، قدم شرحا مهما لبعض أعضاء الوفد الأردني عن طبيعة حياة الفلسطينيين في مناطق السلطة وفي رام الله تحديدا، وكان سعيدا جدا برفقة الوفد القادم من عمان، وقال إن مرافقة الأردنيين وتسهيل تحركاتهم لا تشعرنا بالتعب بقدر شعورنا بالفرح والفخر، وهو ما نفهمه من مرافقة السفير الأردني في رام الله خالد الشوابكة للوفد في كل خطوة يخطوها، حيث الفرح والاهتمام الكبير لم يتمكنا من نزع الصفة البروتوكولية عن سلوك السفير، فهو حاضر في كل لقاء، ونظرة واحدة للسفير تثبت للمشاهد مقدار الخبرة الدبلوماسية التي يتمتع بها هو والمستشار نزار القيسي، وكل هذا البروتوكول حاضرا رغم اللقاء الحميمي الذي جمع الوفد الأردني ووزير الزراعة الفلسطيني على عشاء في منزل السفير، الذي كان يقوم بنفسه بتقديم الطعام للضيوف «المعازيب»، ورغم حديثه عن طفله الأصغر الذي كان يتحرك بحيوية قبل وأثناء وبعد العشاء، إلا أنه كان يتماثل لحالة من الشوق للطفل حين يودعه عائدا الى المدارس في الأردن، فالطفل يزين بحضوره أوقات والده السفير المقيم في رام الله، الذي ينهمك في استقبال كل اردني يزور مناطق السلطة الفلسطينية، ويرافق الرسميين في كل خطوة يقومون بها، ولا يدخر جهدا ولا وقتا ولا «كرما» من أجل راحة أهله القادمين من الأردن، وأمام المجهود الذي بذله على امتداد اليومين «الأربعاء، الخميس» أقسم عليه وزير الزراعة بأن يتوقف عند هذا الحد، ويرتاح من التنقل برفقة الوفد بعد أن «كفى ووفى»، لكن المستشار القيسي قال أقسمتم على أن يبقى سعادة السفير خالد الشوابكة ولا يرافقكم، ولم يشملني القسم، لذلك لن أترككم الا على الجسر في اليوم التالي «الجمعة» ..
العودة إلى الوطن ..
عاد الوفد الأردني الذي ضم بين أعضائه من لم يسبق له زيارة فلسطين، وكانت الفرحة والرضا تعلو محياهم، حيث لم يتعاملوا مع أي شخص من الجانب الاسرائيلي المحتل، لا على المعبر والجسر ولا على الحواجز في الداخل، وكانت المهمة كلها تقع على عاتق ذلك العسكري الخلوق، الذي كان عسكريا في كل ما يصدر عنه من قول او فعل او صمت، ولم يترك الوفد الذي أشرف على تحركاته وسهلها له في فلسطين، الا بعد أن تناولوا القهوة في مكتبهم العسكري الذي يشكل آخر تواجد اردني قبل جسر الملك حسين.
هل تحتاج الزراعة بين البلدين الشقيقين الى مزيد من تعاون بعد أن نعلم بأنها شجرة واحدة نبتت من قلوب الأردنيين والفلسطينيين على امتداد تاريخ جمع عائلة واحدة، انتشرت غرب النهر المقدس وشرقه؟ .. لا بد أنها هي من تعرف الإجابة، تلك الفتاة التي كانت تقف تحت لافتة لمجلس قروي أصبح منسيا بفعل الغبار والدمار الاسرائيلي، وتلتقط الصور لمرور موكب أردني سار في ربوع فلسطين لكن دبيب خطاه كان في ربوع قلوب الفلسطينيين، الذين غنوا على جنبات الطرقات للملك الحسين رحمه الله وللملك عبدالله الثاني، وكانوا يضعون أغاني أردنية وطنية في سياراتهم وعبر مكبرات الصوت في الشوارع.
ستبقى شجرة الألفة والمحبة بين الشعبين الأردني والفلسطيني وارفة الظلال، ترفدها ينابيع الأخوة الصادقة الدافئة، حتى تغطي كل مساحات الأردن وفلسطين المحتلة، وتكون الدولة الفلسطينية القابلة للنمو وللحياة.
الدستور